يقول عالم النفس الشهير فرويد: ” الطفل أب الرجل “، و معنى هذه العبارة أن البيئة التي ترعرع فيها الطفل، و طبيعة العلاقات العاطفية التي تربطه بوالديه، إضافة إلى أخطاء في التربية يكون قد تعرض لها في سنواته الأولى.. كلها عوامل تتضافر لتحدد شحصيته و أسلوب حياته، بل و العقد النفسية التي يمكن أن يعاني منها طيلة حياته دون أن يعرف مصدرها، فالكثير منا، حين الكبر، يجد نفسه مثلا عاجزا عن إتمام مشاريعه الشخصية دون أسباب موضوعية واضحة، و البعض الآخر ينسحب من العلاقات العاطفية، دونما سابق إنذار، و دون تبريرات مقبولة، في حين يعاني الكثيرون من أزمة ثقة بالنفس تنسف كل مجهوداتهم، و تثبط عزائمهم، و تحبسهم في دائرة مفرغة يصعب الخروج منها دون إدراك أصل المشكل و علاجه، و الذي، لو تتبعنا جذوره في كل الحالات السابقة، لوجدناها ضاربة في أعماق الطفولة الأولى، تنهل من صدمات عاطفية، و أخطاء في التربية و التنشئة الاجتماعية، لتروي اللاوعي، الذي يتحكم بدوره في الكثير من تصرفاتنا و اتجاهاتنا و أفكارنا.
في هذا المقال، سنحاول التطرق لخمسة أخطاء في التربية تقع خلال المراحل الأولى لحياة الإنسان، لكن أثرها يظل ملازما له طيلة حياته:
1– التخلي و الهجر
تعتبر تجربة الهجر أو التخلي من أكثر التجارب قساوة في حياة الطفل، فالأشخاص الذين يعيشون هذه التجربة في طفولتهم، يتكون لديهم فيما بعد رهاب الوحدة، و الخوف من أن يتخلى عنهم. و في المقابل، وكاستراتيجية دفاعية للعقل الباطن، يميل هؤلاء لأن يَهجُروا قبل أن يُهجَروا، فتجدهم يتخلون عن الأشخاص الذين يحبونهم في منتصف الطريق، أو المشاريع التي بدأوها دون إتمامها…
يكون إذن الخوف من التخلي و الهجر عند هذا الصنف من الناس ملازما لهم طيلة حياتهم، محددا لسلوكهم تجاه الآخرين، و لطريقة مواجهتهم لظروف الحياة، و لا يمكنهم الانعتاق من هذا الوضع، إلا بالغوص عميقا في الطفولة البعيدة، بمعية أخصائي نفساني ذي خبرة، و قادر على تشخيص الحالة، و رد الأمور إلى علاتها.
2– الرفض والإقصاء
يعتبر شعور الطفل بأنه شخص غير مرغوب فيه، بمثابة جرح عميق حين يختبره في سنواته الأولى، و يطبع بالتالي سلوكه لما تبقى من حياته، لدرجة يعتبر معها نفسه غير جدير بالحب.. مما يجعله في آخر المطاف ينزوي في عالمه الداخلي، بعيدا عن الحياة الاجتماعية. فالأشخاص الذين عاشوا هذه التجربة في طفولتهم يصبحون مراوغين و يتخذون قراراتهم و يخوضون المخاطر بعيدا عن استشارة الآخرين.
3– الإهانة
عندما ينعت الآباء أطفالهم بالأغبياء أو ما شابه من الكلمات، فإنهم حتما لا يدركون أنهم بهذا الفعل يدمرون ثقتهم بأنفسهم، فتعرض شخص ما لمعاملة مهينة في صغره، يخلق لديه شخصية دائمة الارتباط بالآخرين، و تنشئ لديه آلية للدفاع عن النفس عن طريق إعادة إنتاج الإهانة في حق الآخرين، كما يتميز هؤلاء الأشخاص أيضا بالسلطوية و الأنانية المفرطة.
4– القسوة
الطفل الذي ترعرع وسط أبوين يعاملانه بصرامة وسلطوية مبالغ فيها، و يُحَملانه فوق طاقته، ينتابه شعور بالعجز و عدم الجدوى، و يرافقه طيلة حياته، فالأشخاص الذين عانوا في طفولتهم من مثل هذه المعاملة القاسية يتميزون بميلهم المرضي نحو النظام و المثالية، و بافتقادهم للمرونة، و استماتتهم في الدفاع عن أفكارهم و قناعاتهم، و سعيهم المتواصل نحو امتلاك السلطة.
5– الوعود الكاذبة
من عادة الكثير من الآباء إصدار العديد من الوعود لأطفالهم، و هم يعلمون يقينا أنهم لن يلتزموا بها، و مع تكرار هذا الأمر، يشعر الطفل أنه قد تم خذلانه، و أنه ربما لا يستحق ما وعد به، و هذه المشاعر السلبية تنشئ شخصية قوية مناورة و تميل إلى السيطرة على الآخرين و التحكم فيهم.
إن التعرف على هذه الصدمات الخمس، و التي تؤثر في شخصيات أطفالنا و صحتهم النفسية كما الجسدية، و تلازمهم إلى الأبد، الهدف منه بالأساس هو تحسيس الآباء بخطورة بعض السلوكات التي يأتونها تجاه أطفالهم، و يعتبرونها بسيطة، و لكن أثرها في الحقيقة عظيم و يلازم الأطفال طيلة حياتهم، و الخطير في الأمر هو أن التعرض لسوء المعاملة خلال الطفولة، تظهر آثاره متباينة والدافع الذي أنتجها، مما يجعل عملية التشخيص و العلاج غاية في الصعوبة، و تتطلب كفاءة عالية في التحليل النفسي و القدرة على الغوص في أعماق الشخص و العودة به إلى سنوات الطفولة الأولى لوضع اليد على جذور المشكلة و مساعدته على تجاوزها.
___________
الحسين اوباري