الجمعة 17 مايو 2024 / 09-ذو القعدة-1445

وقفات مع الحج



أ. محمود القلعاوي أ. محمود القلعاوي

وقعت عيني على شاشة التلفاز تعرض مشاهد من الحج .. تنتقل الصورة من الكعبة .. إلى بيت الله الحرام .. إلى الصفا والمروة .. إلى جبل عرفة .. إلى بئر زمزم .. ومع كل هذا أجد قلبي يرقص طرباً .. والشوق يملأ وجداني .. ولساني يلهث بالدعاء بأن يرزقني حجة إلى بيت الله الحرام ..


ومع كل مشهد أجد وقفات ودروس نحتاج إليها في حياتنا .. فأمسكت بقلمي واستعنت بربي أن أسجل هذه الوقفات .. وإليكم ما كتبت ، والله أسأل السداد والقبول :


المساواة بين الخلق

في الحج كما في الصلاة نري حرص الإسلام على إعلاء قيمة المساواة بين البشر وبين المسلمين ، فالكل لآدم وآدم من تراب ، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح .


ونجد المساواة في الحج عديدة ، فالرجال جميعًا يتجردون من ملابسهم العادية ، ويلبسون ثوبين إزارًا ورداءً ، والأصل في تلك الثياب هو أن تكون بيضاء ، والكل عاري الرأس ، يلهج بالذكر والدعاء فقيرًا إلى الله ، تجرد من جاهه ونسبه وثروته ومكانته، لا حرس ولا حماية ولا منصب ولا استعلاء.


والكل يطوف بالبيت ، ويسعين بين الصفا والمروة ، ويصعد إلى عرفات ، ويرمي الجمار ، ويبيت في صحراء مني في مساواة تامة في المناسك.


والحد الأدنى لأداء الفريضة المقدسة هو القدرة والاستطاعة ، فلا فضل لغني هنا على فقير.


والكل يشعر بحاجته إلى مغفرة الله ورضوانه ، ويتمني أن يصُدق أحد الحجاج في تقواه ودعواته ليشمل الله الجميع بالرحمة والقبول .


إن الناظر يجد أن الله عزَّ وجلَّ رسّخ معني المساواة بين البشر في أصل الخلق وفي نهاية العمر ويوم البعث ، وجعل التنافس بينهم في الدنيا لأجل العودة إلى الآخرة بزاد التقوى.

 


الفرج قادم لا محالة

يا من تشكو الهم والغم .. يا من تشكو الدين والكرب .. يا من تشكو مشاكل الأولاد .. يا من تشكو ضيق اليد وذل السؤال .. يا من تشكو غم المعصية وبُعد المنال .. يا من ضاقت عليك الدنيا .. يا من تتمني القرب من ربك وتراه بعيد المنال .. الفرج قادم مهما تأخر ومها ظهر بُعده في الأفق ..


ألا تري الحجيج وقد زاد الزحام زحاماً .. في السعي والطواف ورمي الجمار .. ألا تري التعب والنصب في ذهابهم وإيابهم .. ألا تري الإرهاق يعلو الوجوه والأبدان .. حتى يظن الظانّ أنه لا انصرف ولا راحة من هذا كله .. فيصاب البعض بالسآمة والضجر من شدة هول الزحام ومن شدة التعب والنصب .. بل قد يُضمر في نفسه ألا حج بعد هذا العام مما رآه في هذا العام … ولكنه بعد مدة يسيرة من كل هذا .. يأتي الفرج .. ثم تنتقل الجموع .. وتسير الأمور .. ويذهب التعب والنصب .. فسبحان مفرج الكروب .

 


وحدة لم لا نكونها


خلقنا الله على ألوان وألسنة وأشكال .. أحمر وأسود .. أسود وأبيض .. عرب وعجم .. ومع كل هذا تري في الحج عجب العجاب .. الجميع يلبي تلبية واحدة .. يتجه إلى قبلة واحدة .. إلى رب واحد .. مناسكهم واحدة .. زمانهم واحد .. ربهم واحد .. شعيرتهم واحدة .. ثيابهم واحد ..

 

أليست هذه هي الوحدة والقوة يا من تنادون بالتجمع والوحدة .. أي جمع بعد هذا الجمع .. وأي وحدة بعد هذه الوحدة .. إذن من هناك البداية .. من على جبل عرفة تكن البداية للنصر والتمكين .. بعد الوحدة والأخوة والائتلاف .. هذه بداية الوحدة فلم لا نكونها طوال حياتنا .
 



عليك النداء وعلينا البلاغ

لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له : أذن في الناس بالحج .. قال : يا رب وما يبلغ صوتي ؟ .. قال : أذّن وعلي الإبلاغ .. فصعد إبراهيم خليل الله الجبل وصاح :- أيها الناس إن الله أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار فحُجّوا .. فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء : لبيك اللهم لبيك ..

 

كلامٌ ما أجمله أذّن وعلينا البلاغ ..

 

أيها الداعي بلغ وعلي الله النتائج ولا تقل وكيف يصلي وهو على ما هو عليه .. يا طالب الرزق اسع وعلي الله الرزق ولا تقل وكيف يأتني الرزق وأنا على حالي هذا .. أيها العاصي عدّ لربك واطرق بابه ولا تقل لن يغفرها لي فهي كثيرة.. إذن فليكن شعارنا في حالنا ومآلنا :-” أذن وعلي الله الإبلاغ “

 


موكب الكرماء

الذكر مقصود العبادات الأعظم .. والذكر يتجلى غاية التجلي في الحج .. به تُستدفعُ الآفات ، وتستكشف الكربات ، وتهون به على المصاب الملمات ؛ قال ابن عباس رضي الله عنه :- ( الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل، وسوس، فإذا ذكر الله خَنَس ) ، وقال الحسن البصري رحمه الله :- تفقَّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء :- في الصلاة ، وفي الذِّكر ، وفي قراءة القُرآن ، فإنْ وجدتم وإلاَّ فاعلموا أنَّ الباب مُغلق ..


وما شُرع الطواف .. ولا السعي بين الصفا والمروة .. ولا رمي الجمار إلا لإقامة ذكر الله .. الذكر الذي نتعوده في الحج هو ديدن كل المخلوقات .. فجميع الكون يسبح بحمد ربه .. الجميع يشارك في ذكر خالقه .. الحجر والشجر .. السماء والهواء .. الجميع يلهج بالذكر .. فلماذا تشذ عن القاعدة ؟! .. ولماذا تبعد نفسك ولا تشارك في هذا اللحن المعزوف .. شارك أيها الكريم في موكب الكرماء :- ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ..

 

فليكن الحج هو بدايتنا .. بدايتنا في المشاركة في موكب الكرماء .. موكب الذاكرين ..

 


في جنة الإيمان

فلهذه اللحظة التي نعيشها .. انظر إلى جمال ديننا وحلاوته .. للحظة نعيشها في ظل الإسلام ولسنَّة طبَّقناها من سنن الإسلام ، تمتلئ القلوب بكل هذا الفرح، فما بالك لو عشنا الإسلام حياتنا كلها وطبقناه في أمورنا كلها.. الإسلام يا ولدي ما أحلاه!! وما أجمله!!


الله أكبر على رياض الإيمان هذه .. ما ألذ هذه اللحظة التي يعيشها الحاج في حجه طائعاً لله .. هي هي نفس اللذة التي يحسها الصائم لربه .. هي هي نفس اللذة التي تملأ الوجدان عند العودة من صلاة الفجر .. هي هي نفس لذة الاعتكاف .. يا سادة لذة الإيمان وحلاوته .. والله لذة لا تدانيها لذة مهما كانت .. أيها العشاق .. أيها المحبون .. أيها المتلذذون بالمعصية مهما كانت لذتكم لن تداني ولو من بعيد لذة الأنس بالله .. لذة الطاعة .. لذة صلاة الفجر .. أيها الناظر للحرام لن تداني لذتك لذة غض النظر عن الحرام .. أيها الشاب الباحث عن الحب الحرام ولذته , لذة الحب في الله أعلي وأطهر .. وسبحان ربنا حين قال :- ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِيْ فَإِنَّ لَهُ مَعِيْشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَي ) سورة طه: 124

 


نعم .. معيشة الضنك والنكد والألم ، وصدق حين قال وقال وقال :- ( الَّذِيْنَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوْبُ ) سورة الرعد: 28 .. ( الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيْمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ ) سورة الأنعام: من الآية 82 .. ( إِنَّ الَّذِيْنَ قَالُوْا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتْقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُوْنَ ) سورة الأحقاف: 13 ..
 


أخوتي .. أحبتي .. أمسكت قلمي وكتبت ما قرأتم .. فإن رأيتم صواباً ً فمن الله وبدعاء الصالحين لي .. وإن رأيتم خطأ فمن نفسي والشيطان وليس لي فيه نصيب .. اللهم اجعل كلمتنا شاهدة لنا لا علينا .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم