الجمعة 10 مايو 2024 / 02-ذو القعدة-1445

وسطِيَّة الفِطْرَة النَّقِيَّة



حين أعدتُ قراءة الحديث الذي رواه الإمام البخاري وغيره من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلّمَ- أنّه قال:« ما من مولودٍ إلا يولَدُ على الفِطرَةِ، فأبواه يُهَوِّدانِه، أو يُنَصِّرانِه، أو يُمَجِّسانِه، كما تُنتَجُ البهيمةُ بهيمةً جَمعاءَ، هل تُحِسُّونَ فيها من جَدعاءَ». ثم يقول أبو هُرَيرَةَ رضي الله عنه: ﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ [ الآية].

حين أعدتُ قراءة هذا الحديث وجدتُه خير مُعبِر عن وسطيَة الإسلام، المتمثلة في وسطية الفطرة النقية.
وقد جاء في شرح الحديث أنَّ: فِطْرَة اللَّهِ التي فطر الناس عليها، هي  قَبولُهم الحقِّ وتمكُّنُهم مِن إدراكِه، أو: مِلَّةُ الإسلام؛ … فحُسنَ هذا الدِّينِ ثابتٌ في النُّفوس، وإنَّما يُعدَلُ عنه لآفةٍ مِن الآفات البشريَّةِ، كالتَّقليدِ.
وإنني أجِدُ أن قبول الحقِّ والتمكُّن من إدراكِه والهداية إليه، هو تلك الوَسَطِيَّة التي ينعم بها دينُنا. الوسطية بما تعنيه من حُسن اختيارٍ، وانحياز للعدالةِ، وحكمة تقديرٍ للأمور، ورفعٍ للحرَجِ، ونفي للمغالاة والتشدُّد، واستقامةٍ على الجادَّةِ، وشَرَفِ السَّعْي.
إنَّ وسطيَّة أمَّتنا الإسلامية في الهداية إلى تلك الفطرة المركوزة في النفس البشريَّة، والتي برزت بوضوح في الإسلام وتعاليمه الراقية النقيَّة، تلكَ الفِطرة، حين يحيد أصحابُها عن الجادِّة، يصيبها المَسْخ والتشوُّه بفعل آفات بشريَّة عديدة، التقليد المذموم أحدُها، والأفكار الخبيثة منها.
ولمَّا كان الإسلام دين الفِطْرَة، فهو دينُ الوَسَط، ليس “الوسط” بمعناها البينيِّ، بين طرفين مذمومين فحسب، بل بمعنى الخيريَّة المركوزة في تعاليمه؛ فلا غُلُوّ ولا تقصير، ولا تهاون، وتشدُّد، فاختصتْ أمّة الإسلام بأكمل الشرائع، وأوضح المذاهب، فهي أمّة الفِطرة النقيَّة، وهي الأمَّة الوَسَط ” وكذلك جعلناكم أمَّةً وسَطًا”.

ويوضِّح لنا الدكتور محمد عمارة كيف بلغت أمّةٌ تلك المنزلة، فيقول: ” وهي قد بلغت وتبلغ هذا المقام، لأنها بنفيها الغلو الظالم، والتطرُّف الباطل، إنّما تمثِّل الفطرة الإنسانيَّة قبل أن تعرض لها، وتعدو عليها عوارض وعاديات الآفات، تمثل الفطرة الإنسانية في بساطتها وبداهتها وعمقها، وصدق تعبيرها عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، إنّها صبغة الله، أرد الله سبحانه لها أن تكون صبغة أمة الإسلام وأخص خصوصيات منهج الإصلاح بالإسلام… إنها الحق بين باطلين، العدل بين ظُلْمَيْن، الاعتدال بين تطرفين، الموقف العادل الجامع لأطراف الحق والعدل والاعتدال، الرافض للغلو إفراطًا وتفريطًا” [ د. محمد عمارة: وسطية الأمة الإسلامية، مجلة حراء، العدد الثاني، يناير/ فبراير 2006م].

تلك الوسطيَّة التي تتلمَّس ملامحَها في حديث الثلاثة رهطٍ الذين سألوا أزواج النبي عن عبادته، فكأنهم تقالّوها، فشدَّدوا على أنفسهم أمورًا؛ فواحدٌ قال: أمَّا أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الثاني: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوَّجُ أبدًا، وجاء النبي فصحَّح لهم المسار، وقال : « إنِّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأفطر، وأصلِّي وأرقٌد، وأتزوَّجُ النساء، فمن رغب عن سُنَّتي، فليس مِنِّي» [ خرَّجه البخاري وغيره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه].

ويستخلص الدكتور علي محمد الصلابي من هذا الحديث ملامح الوسطية في رسالته للماجستير” الوسطية في القرآن الكريم” فيذكر من تلك الملامح:  الخيريَّة؛ فالتوسط بين الصوم والإفطار، والصلاة والرقاد، لم يُقلِّل من كون النبي أخشى الناس للهِ وأتقاهم له، ومن ملامحها “الاستقامة” في الالتزم بسنة النبي، فَمن رغب عنها فليس مِنَّا، ومن ملامحها أيضًا : “اليسر ورفع الحرج”؛ فلا تعسير ولا إعناتٍ بالتبتُّل، بل تلبي الوسطيّة نداء الغريزة الإنسانيّة في صورتها السويَّة، ومن ملامحها “الحكمة” في تقدير الأمور، وتصحيح المسار. وكذا “العَدْل” بين حقِّ الربّ وحقِّ النفس بلا شطَط، و” البينيَّة” من أهم ملامحها؛ فلا إفراط في الأمور ولا تفريط، بل المسلك الوسط هو المشروع. [الوسطية في القرآن، ص 224-227].
والوسطيَّة تَعُمّ الدِّين والحياة بكافة جوانبها، نجدها في العقائد والعبادات والأخلاق والتشريع والمعاملات،…إلخ

إنَّ أُمتّنا أمةٌ وسطٌ، ودِينُنا وسَطٌ، والفِطْرةُ النقيَّة التي فَطَر اللهُ النَّاس عليها، تقودُنا إلى الدِّينِ الحقِّ الذي ارتضاه لنا رَبُّنا، وإلى المسار الصحيحِ الذي لا نضلُّ فيه ولا نَشْقَى.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم