الجمعة 17 مايو 2024 / 09-ذو القعدة-1445

مثبّتات المسلم وقت الفتن والمحن



د. إبراهيم بن صالح التنم

 

مَن تأملَ العالمَ الْيَوْم، يَرَى أحداثاً متسارعة, ويشاهد هَرجاً وَمَرجاً، فُرقة وَاخْتِلَافاً، فَمَا حالُ المسلمِ فِي ظلِّ هذهِ الأزمات الْمُتَلَاحِقَة؟.


إليكم أيها الأحبة طائفة من هذهِ الْمُبَشِّرَات الْإِيمَانِيَّة، ندركها ونعلمُها ونتعاملُ مَعَهَا، كَلَّمَا حَدَثَت أزمةٌ، أَو أطلّت فِتْنَة.


1-ترسيخُ معاني الْعَقِيدَة الحقةِ فِي نُفُوسِنَا:

 

ومن قضايا التوحيدِ العظيمة الَّتِي يجبُ أَلَا تغيبَ عَن المؤمنِ أبداً: قضيةُ الربُوبية، فربنا تَعَالَى بيدهِ الأمرُ كلُّه، وإليهِ يَرجعُ الأمرُ كلُّه، علانيته وسره, فالخلقُ وَالرِّزْق والإحياءُ والإماتةُ والنفعُ والضرُ والرفعُ والخَفضُ كلهّا بيدِ اللَّه، والخلقُ كلُّهم لا يملكونَ مَن الأمرِ شيئاً: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).

 


2-العناية التامة بتوحيدِ الأسماءِ وَالصِّفَات:

 

وهُو الإقرارُ بأنَّ اللهَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وَعَلَى كلِّ شَيْء قَدِير، لهُ المشيئةُ النافذةُ، والحِكمةُ الْبَالِغَة، وأنَّهُ سَمِيع ٌ بصيرٌ رءُوفٌ رحيمٌ، عَلَى الْعَرْش اسْتَوَى، وَعَلَى الملكِ احْتَوَى، وأنَّهُ الملكُ القدوسُ السلامُ المؤمنُ المهيمنُ العزيزٌ الجبارٌ المتكبرٌ، سُبْحَان اللهِ عمَّا يُشركون!, إنَّ استشعارَ المسلمِ لأسماءِ اللَّه، واستحضاره لصفاتهِ، يمنحُهُ الرِّضَا بِمَا قَضى، والطمأنينةَ بِمَا قدّر، (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ), فلم الضجرُ وأزمّةُ الأمورِ كلّها بيدِ اللَّه.

 


3-ومن المثبتات: صدقُ الدُّعَاء وَالتَّضَرُّع لِلَّه:

 

 (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) , (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ), وَمَنّ هَدْي النُّبُوَّة قبسٌ ودعاءٌ يُذهب الهمَّ والغمّ والرحضاء، فَفِي المسندِ مَن حديثِ عَبْد اللَّه بن مَسْعُود رَضِي اللَّه عَنْه قَال، قَال رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسُلِّم: “مَا أصابَ عبدٌ همٌّ ولا حُزْن فَقَال: “اللهمَّ إنِّي عبدُك ابنُ عبدِك ابْن أمتِك، نَاصِيَتِي بِيَدَيْك، ماضٍ فيّ حُكْمِك، عدلٌ فيّ قَضَاؤُك، أَسْأَلُك بِكُلّ اسْم هُو لَك، سميتَ بِه عَلَى نَفْسَك، أَو أَنْزَلْتَه فِي كِتَابِك، أَو عَلمْته أحداً مَن خَلَقَك، أَو اسْتَأْثَرْت بِه فِي عِلْم الْغَيْب عَنْدك، أن تجعلَ الْقُرْآن ربيعَ قَلْبِيّ، وَنَور صَدْرِي، وجلاءَ حُزْنِي، وذهابَ همِّي وَغُمِّي، إلاَّ أذهبَ اللهُ همَّه وغمَّه، وأبدلهُ مكانهُ فرحاً، قَالُوا: يَا رسولَ اللَّه: أَفَلَا نتعلمهنَّ؟ قَال: بَلَى، يَنْبَغِي لِمَن سمعهنَّ أن يتعلَمّهُنَّ”. فهلاّ تعلمنا هَذَا الدُّعَاء بَعْد سَمَاعِه؟ وهلاّ عَمِلْنَا بِه؟ حتى نجد أَثَرَه فِي حَيَاتُنَا وفي سلوكنا!.

 


4- التَّفَاؤُل لِلْمُسْتَقْبَل, وعدمُ حبسِ النفسِ تَحْت ضغوطِ الواقعِ الْمُؤْلِم :

 

 إِذ كثيراً مَا يتضايقُ المرءُ ويقلقُ، نتيجةَ مَا يراهُ حاضراً مَن أحداثٍ مؤلمةٍ، لكنهُ حِينما يتجاوزُ الحاضرَ، ويتفاءلُ بِالْمُسْتَقْبَل، يقود نفسه للعملِ والإنتاج، والبهجةِ وَالسُّرُور، فالأحزانُ لا تَدُوم، والضيقُ يعقبهُ الْفَرَج، والصبرُ جسرٌ يعبرُ عَلَيْه الصَّابِرُون مَن حالٍ إِلَى حَال، وَهَذا رسولُ الْهُدَى صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسُلِّم حِين ضَاقَت عَلَى أصحابهِ الأرض، وجاءُوا إلَيْه يشكُون مَا يلقونَ مَن عنتِ الْمُشْرِكِين، وَقَال قائلُهم: أَلَا تستنصرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ ففَتح لَهُم رسولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسُلِّم بابَ الأملِ وبشَّرهم بمستقبلٍ وضاء: “وَاَللَّه ليتمنّ اللهُ هَذَا الأَمْر حَتَّى يسيرَ الراكبُ مَن صنعاءَ إِلَى حَضْرَمَوْت لا يخافُ إلاَّ اللَّه وَالذِّئْب عَلَى غَنَمِه، وَلَكِنَّكُم تَسْتَعْجِلُون “.

 


5- كثرةُ العبادةِ والثبات عَلَى الطَّاعَة:

 

إِذَ الأنفسُ تُشغل، والقلوبُ تَضْعُف، والذهنُ يتشتتُ، ورُبما انشغل بعضُهم بالقيلِ وَالْقَال، وفَترَ عَن عبادةِ الكبير المتعال، وَلذَا حثّ الحبيب صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسُلِّم الْمُسْلِمِين إِلَى العبادةِ فِي الهرجِ، وعظّمَ أَمْرَهَا فَقَال: “العبادةُ فِي الْهَرْج كَهِجْرَة إليَّ”. وفي الْحَدِيث: “بَادِرُوا بِالْأَعْمَال فتناً كقطعِ اللَّيْل الْمُظْلِم، يصبحُ الرجلُ مؤمناً وَيُمْسِي كافراً، وَيُمْسِي مؤمناً ويصبحُ كافراً، يبيعُ دينهُ بعرضٍ مَن الدُّنْيَا ” وَالْحَدِيثَان رَوَاهُمَا مُسْلِم.

 


6- والدعوةُ إِلَى اللَّه:

 

 فلاحٌ ومثبّت إيجَابِي فِي الأزماتِ، بَل هو مفتاحٌ لحلّها بإذنِ اللَّه، وُفي ذَلِك إشغالٌ للنفسِ بِمَا يَنْفَع.


إنَّ الفارغَ مَن العملِ المثمرِ يَقْضِي وقتَه بالتفكيرِ والتحسُّرِ السَّلْبِيّ، لَكِن إِذَا صرفَ همّتهُ للدعوةِ ونفعِ النَّاس، نفعَه اللَّه وَنَفَع الناسَ بِه، وَمَنّ تأملَ سيرةَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسُلِّم والمؤمنين معهُ، وَجَدَهُم فِي أشدّ الضيقِ والأذى يُمارسُون الدعوةَ إِلَى اللهِ، وَعَجِبْت قريشٌ وَهْي تضايقهم، من يَسْتَجِيبُون لِلدَّعْوَة، وينضَّمون لقافلةِ الْمُؤْمِنِين، وَمَنّ أبرزِ هؤلاءِ حمزةُ وعمرُ بن الْخَطَّاب، رَضِي اللَّه عَنْهُما، فَهَل يَا تُرى ينشطُ الْمُسْلِمُون فِي الدعوةِ إِلَى اللهِ، وُفِي وقتِ الأزماتِ خاصةً، ليغيظوا الكفَّار والمنافقين مَن جَانِب، وليطردوا عَن أنفسهمُ الضيقَ واليأسَ والإحباطَ مَن جانبٍ آخَر؟! وينشروا الْخَيْر ويضاعفوا مَن أعدادِ الْمُسْلِمِين.

 


7- والعلم النَّافِع:

 

 تعلّما وتعليماً ونشراً، من أعظم ما يثبت المؤمن في الأزمات, فالعلمُ نورٌ يضيءُ لِلسَّالِكِين، وَهْو خشيةٌ يقطعُ الخوفَ إلاَّ مَن ربِّ الْعَالَمِين، والعلمُ طريقٌ إِلَى الْجَنَّة، وَهْو سببٌ لِلْأَمْن وَالطُّمَأْنِينَة، والعلماءُ الرَّبَّانِيُّون أَعْرف الناسِ فِي الفَتن، وأقدرُهم عَلَى تسكينِ الناسِ في الْمِحَن, وأعلمهم بحركةِ التَّارِيخ ومصائرِ الْأُمَم, (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ), فتعلمُ الْعِلْم ونشرُه، والقربُ مَن العلماءِ ومشورتُهم، كلّ ذَلِك يُعَين الْمُسْلِم فِي الأزمات، وَهْو فِي غَيْرِهَا مَن بابِ أَوْلَى.

 


8- التوثق فِي الأخبارِ وَالتَّرَوِّي في نقل الكلام:

 

 ولوسائلِ الإعلامِ أثرُها فِي الإرجافِ والتخويفِ، لا سِيَّمَا إِذَا كَان العدوُّ مستحوِذاً عَلَى المعلومةِ، ينشرُ مَا يَشَاء، ويدع ما يشاء, فَاحْذَرُوا التهويلَ الْإِعْلَامِيّ، ولا تَكُونُوا أداةً للترويج والترويعِ بِمَا لا يصحُّ ولا يَثْبُت، وحَسْبُ المرءِ كذباً أن يُحدِّثَ بكلِّ مَا سَمِع، وُفي الْقُرْآن تنويهٌ وَتَوْجِيه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ).

 


9- معرفةُ الأعداءِ عَلَى حَقِيقَتهُم:

 

والحذرُ مِنْهُم، والاستعدادُ لَهُم، فللأمةِ المسلمةِ أعداءٌ ينكشفون فِي الأزمات، مِنْهُم الظاهرُ بِعَدَاوَتِه، ومنهم المنافقُ، وَإِذَا كَان خيرُ الْقُرُون قيلَ لَهُم: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِين), فغيرُهم مَن بابِ أَوْلَى، فَفِي الأزمات يميزُ اللهُ الخبيثَ مَن الطِّيب، ويتبينُ الصادقُ مَن الْكَاذِب.

 


10-وأخيراً وَلِيس آخراً دُونَكُم هَذَا المثبّت، فَتَدَبَّرُوه ولازموه، إنَّهُ حبلُ اللَّه الْمَتِين، وكتابُهُ الْمُبِين،:

 

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين) وقَال تَعَالَى: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)..آهٍ عَلَى الْمُسْلِمِين كُمّ ضَيَّعُوا كتابَ ربِّهم، وفِيَه ذكرُهم وَتَقْوَاهُم، إنَّهُ كتابٌ مَفْتُوح، يَقْرَأ الْمُسْلِمُون فِيْه أسبابَ النَّصْر، وعواملَ الْهَزِيمَة، وسِرَّ النَّجَاح، وأسبابَ الْفَشَل، ومصدرَ القوةِ، ومكمنَ الخطرِ، فَهَل يتمسكُ الْمُسْلِمُون بِاَلَّذِي أوحي إِلَى نَبِيِّهِم؟ وَهَل تكونُ الأزماتُ سبباً لمزيدِ إقْبَالِهِم عَلَى كتاب ربهم: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).

 


هَذِه معاشرَ الْمُسْلِمِين عشر مُثَبِّتَات لِلْمُسْلِم وقت الأزمات، إنَّها تثبت ولا تفتِّر، وتُطمأنُ وتُثمر، فَخُذُوهَا بقوةٍ، واعملوا بها, صادقين متوكلين على رب العالمين.


اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك يا رب العالمين.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم