السبت 18 مايو 2024 / 10-ذو القعدة-1445

كيف عالج الإسلام ظاهرة الانتحار؟



بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فإن مما نراه ونسمع عنه في الآونة الأخيرة، والذي تقشعر له الأبدان ويشيب منه شعر الرأس خجلا وحياء وخوفًا: تزايد عدد المنتحرين في المجتمع المسلم.

لم أكن أتصور أن سيأتي علينا يوم ونسمع عن أرقام هائلة لمسلمين ينهون حياتهم بأيديهم، إما شنقًا أو حرقًا أو قتلًا بطلقة نارية، أو سكين يقطع بها جسده ورقبته، فالعجب كل العجب أن تنتقل هذه العدوى من مجتمعات الغرب الكافر المُلْحِد، الفاقد للإيمان والتوحيد، إلى مجتمع الإيمان والعقيدة السليمة في الخالق جل شأنه.

ومع معرفة خطر هذه الظاهرة شرعا واجتماعيا ونفسيا وتربويا واقتصاديا وسياسيا، إلا أنه يبقى لنا أن نعى نعرف كيف عالج الإسلام هذه الظاهرة، ووضع كافة الحواجز والسدود في وجه من يريد أن يفعلها أو أن يقوم بها؛ فقد جاء شرعنا الحنيف بأكرم منهاج يحفظ الإنسان كله من مبتدئ حياته إلى منتهاها.

وقبل أن أبين كيف عالج الإسلام مشكلة الانتحار؟، أحب أن أوضح أن كثيرًا ممن يقعون في هذه الكبيرة وتلك الجريمة الخطيرة، إنما يفعلون ذلك نتيجة أشياء -عند معرفتها والإطلاع عليها- نكتشف تفاهتها وحقارتها في تأثيرها؛ «فهذا خطيبته تتركه، وذاك أهل الفتاة التي يحبها يرفضونه، وتلك زوجها ينكد عليها حياتها، أو أن أباها لا يريد تزويجها ممن تعشق وتهوى، وهذا تعرض لديون كثيرة، وذاك وقف في طريقه إنسان فعطل طموحاته في حياته، مما جعل هذا يضع نفسه على حافة بلكونة شقته، وتلك قامت بطرح نفسها من فوق عمارتها السكنية، وذاك علَّق نفسه في حبل وشنق نفسه، وآخر رمى نفسه في مياه النيل -التي ما جعلها الله يوما من الأيام سبيل إنهاء الحياة؛ بل جعلها سببا للحياة فمن الماء خلق الله كل شيء حي، ولم يجعلها أبدا وسيلة للغرق المحتوم أو قتل النفس- وخلاف ذلك عما نسمعه من طرق جهنمية وشيطانية لقتل النفس وإزهاق الروح».

وإن المتأمل في منهج الدين العظيم (الإسلام) سيلحظ أن له طريقة سهلة ميسورة في علاج هذه الظاهرة ومثيلاتها وما يؤدي إليها، على النحو التالي:

أولا: التحذير والترهيب من خطورة قتل النفس بأي صورة كانت، يقول تعالى: «ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما» فنهى الله تعالى عن القيام بهذه الجريمة، مرغبا في رحمته ليتعلق بها الإنسان المضطرب نفسيا والمعرض للآلام، أن الله رحيم مهما بلغ بك الذنب، أن الله رحيم مهما ضاقت بك الدنيا، أن الله رحيم مهما قابلك من عقبات في طريق حياتك. فإن لم يرغب مسلم في رحمة الله –هذه- فقد أتاه الوعيد من عند الله القادر وهو يقول، موضحا جزاء من يصنع ذلك: «ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا» ومن هنا نلحظ: لماذا عدد المنتحرين من المسلمين قليل عن عدد الغربيين والكافرين؛ لخوف كثير من المسلمين من الوقع في الحرمة والنهى الوارد في القرآن، وخوفًا من الله ووعيده.

ثانيا: توضيح الإسلام للمنهج الأمثل والأقوم للتعامل مع الأزمات -بكل أنواعها (نفسية وعاطفية واجتماعية واقتصادية وغيرها)-، ومن بين تلك الوسائل الآتي:

1. الدعاء واللجوء إلى الله؛ فالإنسان ضعيف بذاته قوي بربه، والدعاء واللجوء إلى ربنا سبحانه وسيلة شرعية قوية الأثر والمفعول، وهى سلاح للخروج من الهموم والآلام، ويكفي في ذلك قول الله تعالى: «وقال ربكم ادعوني استجب لكم»، فربك وعدك بأن يستجيب لك إذا دعوته، فلا تتباطأ وانتبه فإن الله جل شأنه جعل الدعاء عبادة والمعرض عنه معرض عن عبودية ربه، ورسولنا صلى الله عليه وسلم، جعل لنا منهجًا وقائيا وعلاجيا مع الدعاء، فهناك دعاء وقائي نتقي به شر الأزمات والهموم، كمثل قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال»، وإن وقع بالإنسان هم أو مشكلة أو مصيبة فهنا دعوات كثيرة، كمثل: «دعوة يونس عليه السلام: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين»، وقد قال النبي أن من قالها نجاه الله مما هو فيه وصرف عنه همه وغمه.

2. الصبر والأمل والتفاؤل، لا الجزع واليأس والتشاؤم، فالصبر مفتاح للفرج، والصبر علاج للمهموم والمغموم، والصبر سبيل الثواب العظيم والأجر العميم، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» فالصبر خير لك في كل الأحوال، ويقول عمر بن الخطاب --، وما أجمل ما قاله: «وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بالصَّبْر».

ثالثا: ومن طرق علاج الإسلام للظاهرة: البحث عمن لهم ميول للقيام بهذه الفعلة، والاهتمام بمن لديهم ميول انتحارية، ومحاولة إعطائهم جرعات أمل وتفاؤل، ومنحهم شيئا من الرحمة والعطف، نعم: مهما بلغ بك الهم وأصابك الغم فاعلم أن الله موجود، وإن أصابك هم فلا تقل يارب إن همي كبير ولكن قل يا هم إن ربي كبير، ويقول ربك سبحانه: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء» وفي الحديث أن النبي قابل أبا أمامة الباهلي وقد أصابه غم وكثر عليه الدَّيْن فكان تعامل النبي معه على النحو الرائع من الاحتواء وبث الأمل والقيام بواجب المسئولية الجماعية من الإعانة لأي مسلم على مواجهة الاضطراب والقلق والهموم والديون والأزمات، وقد أقبل عليه النبي ينصحه ويأخذ بيده ويخرجه من همه، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ « يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِى أَرَاكَ جَالِسًا فِى الْمَسْجِدِ فِى غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ ». قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِى وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ «أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَمًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ». قَالَ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ». قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّى وَقَضَى عَنِّى دَيْنِى.

وهذه رسالة لكل مسلم يشعر بآخر مصاب باضطراب أن يقف بجواره وأن يأخذ بيده بدلا من هذه السلبية المهينة والتي بقى معها أناس يشاهدون منظر شاب يربط نفسه بحبل فوق كوبري قص النيل وينتظرون ماذا سيصنع؟ ويرمي بنفسه من فوق الكوبري، ليودي بحياته سريعا، ولا أحد يتحرك ولا أحد يسرع لإسعافه مما هو فيه من هم وغم، وهذه أبسط حقوق المسلمين على بعضهم.

رابعا: وضع العقوبات الرادعة والصارمة والمخيفة جدًا لمن يقبل على ذلك، وفي التاريخ خير مثال، ففي «قصة حكاها أبو هريرة أن رجلاً في عهد النبي في إحدى المعارك قاتل قتالاً شديدًا فأصابته جراحة، فلم يصبر فقتل نفسه، وقد أخبر النبي قبل ذلك أنه من أهل النار» ، وروى جندب أن رسول الله قال: ((كان برجل جراح أو كانت به قرحة بوجهه، فلما آذته انتزع سهمًا من كنانته فنكأها ـ أي: فجرها وفتحها ـ، فلم يقف الدم حتى مات، فقال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، قد حرمتُ عليه الجنة)) متفق عليه.

وفيهما خير دليل على بيان العوقبة الصارمة لمن فعل ذلك أو قام به، وأحب أن أقول، أن من عرض مسلما لفعل ذلك سواء كان الإيذاء له مباشرا أو غير مباشر يحمل من الإثم الشيء العظيم فليتق الله كل مسلم في مسئوليته، ويقول النبي موضحا العقوبة للترهيب، عن أبي هريرة قال قال رسول الله: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بِها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسَّى سُمًا فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا»

ودل هذا الحديث على أن من أقدم على قتل نفسه بارتكاب أحد الأفعال الواردة في هذا الحديث أو ما كان في معناها فإن عقوبته العذاب في جهنم بنفس الفعل الذي أجهز به على نفسه، فمن ألقى نفسه من مكان عال مرتفع أو موقع شاهق أو ضرب نفسه بحديدة كالسيف أو السكين أو المسدس أو نحو ذلك أو تناول مادة من المواد السامة القاتلة فأدى ذلك كله إلى موته فإنه يعذب في النار بفعلته الشنعاء التي أقدم عليها….

خامسا: من وسائل العلاج الإسلامي -أيضًا- بيان كرم الله على عباده وكمال منته عليهم بمنحهم أعضاء في جسدهم كالعين والأذن والرجل واليد والرقبة، فأعضاؤنا منحة من الله وجسمنا نعمة من الله في أحسن تقويم؛ لنستخدمها في طاعة الله ونحافظ عليها دوما ولا نعرضها للهلاك والقتل (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا) فاعتبر الله تعريض الجسد للهلكة إساءة بالغة لنعمة الله، ويعد كفران بنعم الله. كما أن علماء أصول الفقه عدوا أن من الضروري حفظه إسلاميا ما يسمى في الشريعة بالضروريات الخمس -اللازم حفظها وعدم تعريضها للهلاك- «النفس والعقل والدين والعرض والمال» فمن عرَّض نفسه لخطر في جسده فهو آثم شرعًا، فأعضاؤنا ليست ملكا لنا بل هى منحة خالصة لنا من الله تعالى.

والمسلم الفاهم لهذا جيدا لا يعرض نفسه للتهلكة ويحذر من الوقوع في مثل هذا الفعل الشنيع، ولعل هذا التصور السريع عن موقف الإسلام العلاجي لظاهرة الانتحار وما يؤدي إليها، نستخلص منه الآتي:

1. حرمة هذا الفعل الخطير وتلك الكبيرة المؤذية؛ فالاعتداء الإنساني على الذاتي جريمة كبرى كما حرمتها بالاعتداء على الآخرين.

2. غير المسلم أقرب إلى التعاسة والتشاؤم واليأس لبعده عن الإيمان بالله الخالق.

3. المسلم سعيد بدينه ومنهجه ومتمسك بربه وكله أمل فيما له عند الله، محافظ على بدنه وأعضائه.

4. يلزم لكل مسلم بتعرض لأزمة ألا يتعجل إتخاذ القرار وأن يتأنى فيه وفيما هو مقبل عليه، ويحلل النتائج قبل القيام بأي عمل يقدم عليه.

5. نتعلم المسئولية الجماعية والفردية في رد الهموم عن المهمومين والأخذ بيد الآخرين –بكل إيجابية- نحو الأمل والتفاؤل.

وأخيرا، حمدًا لله على ديننا الذي ميزنا به، وأكرمنا بالانتساب إليه، فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم.

نفعني الله وإياكم بهذه الكلمات، وتقبلها منا خالصة لوجهه الكريم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم