الجمعة 17 مايو 2024 / 09-ذو القعدة-1445

كلا إن معي ربي سيهدين



نحتاج بين الحين والآخر أن نستلهم العبر ونبحث عن الحكم ونتدبر العظة من بعض آيات الذكر الحكيم التي يسرد فيها قصص الأنبياء والرسل ، فلم تسرد إلا لحكمة أراد المولى عز وجل أن يعلمنا إياها ومن هذا المنطلق نحاول أن نقف مع الدلالات النفسية لقوله تعالى ” قال كلا إن معي ربي سيهدين ” الشعراء (62)

ففي تلك اللحظة العثرة التي كاد فيها فرعون أن يدرك سيدنا موسى عليه السلام ومن آمن معه من قومه ، هنا اهتز أصحابه فقالوا إنا لمدركون ” فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون” الشعراء (61) ، بينما نفى موسى عليه السلام بثبات ما يعتقده أصحابه من أن اللحاق بهم أصبح لا محالة ، واثقا في الله عز وجل قائلا بعد كَلَّا ، إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ” الشعراء (62) ، فلن يتركني رب السماوات والأرض ورب كل شيء ، فلم أبتغي سوى رضاه ، ولن يترك من يتوكل عليه، ويستغيث به، فسوف يهديني لطريق النجاة من ذلك العبد الذي طغى وبغى وبلغ في الظلم منتهاه ، فخرج على رأس عدد وعدة وعداد ؛ ليدرك موسى لا لشيء سوى أنه دعا إلى الله الواحد الأحد ، وأراد أن ينقذ الناس مما هم فيه

فلم يكن يسعى موسى عليه السلام لملك ، فإنما الملك لله ولا لمنصب ليأخذ مكان فرعون في ملكه وقومه ، فلم يقترف موسى في حق فرعون ما يجعله يسعى لقتله وأصحابه ، وإنما لأن فرعون لم يكن ليفكر سوى في ذاته وملكه الذي لا ينبغي لأحد سواه ، وقتل من أجله الأطفال حتى لا يستطيع أحد أن ينافسه ويقف أمامه ، فوأد الأطفال وظلم وفعل ما فعل ، دون أن يفكر في غيره ولا يستمع لموسى ليعي ماذا يقول ويريد ، وإنما يجادل ليكون هو كما قال: “فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ” النازعات(24) ، وفي تلك اللحظة التي لم يجد فيها موسى عليه السلام سوى البحر أمامه وفرعون وجنوده من خلفه، ولم يوجد طريق يستطيع السير فيه فانغلقت دونه الطرق ، كان الباب مفتوحا دون انتظار ، والقلب مخفوقا واللسان يلهث أن معي ربي سيهدين

هنا نظر القلب إلى أعلى فلم ينظر أمامه ليجد الصعاب ، ولا خلفه ليجد العدو ، وإنما نظر إلى السماء حيث سرعة البرق بل أسرع يُرفع الدعاء ، وبأقصى سرعة تكون الإجابة بسرعة لمح البصر كان رد رب السماء ” فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ” الشعراء (63) انظر فأوحينا ليدل حرف العطف (الفاء) على سرعة حصول المراد واستجابة الدعاء والثقة وحسن الظن بالله ، وأن الله لا يخزي من توكل عليه واثقا في رحمته وحكمته ، فتلقى موسى عليه السلام الوحي من ربه ليفعل ما فعل ويصنع لنفسه طريق النجاة الذي أوحاه الله إليه

هنا علينا أن نتوقف أمام نقطتين في غاية الأهمية لعلهما سر الحكاية التي أراد الله عز وجل أن يعلمنا إياها ونقف أمامها كثيرا ونستلهم ما فيها من عبر لعلنا نجد طريق النجاة الذي نبحث عنه : النقطة الأولى : هي حالة موسى عليه السلام عندما سدت دونه الطرق ، لم ييأس ولو للحظة ، بل رد قائلا بكل ثقة كلا ، في الوقت الذي ظن فيه أصحابه أن السبل قد انقطعت بهم وأنهم مدركون، وأن العاقبة غير محمودة ، هم يظنون ذلك ، ولكن موسى يقول كلا فهو يثق بربه ، هذه الحالة رفعت في أقل من ثانية إلى الله عز وجل ، بقلب واثق في الله “إن معي ربي سيهدين”

وهنا نتوقف مع أنفسنا لحظات نتعلم ، ويسترجع كل منا موقف من المواقف أو حتى العديد من المواقف والمحن والأزمات التي يمر كل منا بها في حياته ، ويظن أن ليس لها حلا ، هكذا أغلقت دونه الأبواب وسدت دونه الطرق ، فقد يتسلل إلى البعض منا الإحباط وفقدان الأمل واليأس ، ويظن أن خطوط الأمل قد انقطعت ولم يعد للحياة معنى حتى لو استمر الإنسان حيا ، وأن الأحلام الجميلة دائما لا تتحقق، ويرضى بأن يذهب حلمه أدراج الرياح ليسمع ما يسمع ممن حوله قائلين كفى انه حلم وليس حقيقة، وهو أمر هين كما يراه من حولك ممن لم يكلفوا أنفسهم ويأخذوا من وقتهم ليسمعوك بعقولهم وقلوبهم، ربما لأن أحلامهم مختلفة، أو لأن حلمك لا يعنيهم، أو ربما يضر حلمك باستقرارهم هم ، أو …………

إن من يعنيه حلمك عليه أن يكون دقيقا موضوعيا حتى يصل بك إلى ما فيه مصلحتك وهو يترفق بك ، حتى لو وصل بك لغير ما تريد طالما في ذلك مصلحتك ، لكن دونما استماع إليك هنا يكون التحامل لأمر ما في نفس يعقوب ، ويظل الإنسان يسترسل بعبارات تثير في النفس مزيدا من الأسى والشجن ، ويرتكب الإنسان بتلك العبارات التي تدعو للتشاؤم واليأس والإحباط شيئين : باع عقله أو أعطاه إجازة ووقف ينظر للأحداث باكيا ينعي حظه ونفسه على ما يحدث لها ، مستسلما لما أراده غيره ، تاركا التفكير في المخرج وتحويل الركب ودفة الأمور في الاتجاه الذي يريد هو لا غيره

ولو كف عن البكاء والعويل ، وجلس مع نفسه يرى أبعاد الموقف وأطرافه وكيف يكون المخرج لما هو فيه ، وما هو التصرف الصحيح في مثل هذا الموقف وتلك الأحداث ، ويفكر بطريقة مختلفة عما اعتاد، هنا سيرى حلولا مختلفة ودائما ما اكرر علينا أحيانا أن نفكر بطريقة مختلفة، فربما يكون العيب في طريقة تفكيرنا التي تضع أمامنا مزيدا من العراقيل والعقبات والنتيجة مزيدا من الخسارة والفقدان، علينا أن نصل بين نقطتين بخط مستقيم مباشر النقطة الأولى ما نحن فيه، تلك النقطة التي نقف عندها

والثانية هي ما نريد أن نصل إليه (الحلم) ، فلا تأتي الأحلام لأصحابها دون عناء وجهد وتفكير ، وإذا كان الحل الذي تفكر فيه لا يصل بك إلى ما تريد ، فغير من طريقة تفكيرك وانظر جيدا ربما تجدد نفسك وشخصيتك بل وقدرتك على إدارة الأمور ، وتصل لبديل وحل آخر، فارضا نفسك على الأحداث لا العكس ، فلا تفرض الأحداث نفسها عليك لتكون ريشة في مهب الريح تأخذك حيث أرادت، علينا أن ننتفض لما أردنا، فلا يفقدنا الآخرين قدرتنا على حماية أنفسنا وتحقيق الصحة النفسية لنا والشعور بالسعادة، حتى لا ننزلق لطريق الهاوية ونجد أنفسنا أجساد بلا روح، هنا نكون محل شفقة وعطف لا محل تقدير وتبجيل، ولحساب من كل هذا ؟! من سيربح من خسارة أنفسنا إنها معركة الحياة

لا تكن لعبة حتى في يد نفسك دون أن ترحم نفسك ، علينا أن نهتم بذلك السياج الذي يمنعنا من السقوط في الهاوية ، علينا نحن قبل غيرنا أن نقدم لأنفسنا ما نحتاجه من الدعم بالشكل الذي ينير لنا الطريق ، فلابد للإنسان أن يقف ثابتا قويا ، والقوة تأتي من حسن الظن بالله وطلب الهداية منه والتفكير السديد الذي يوحي الله إليك به متوكلا عليه لا ظالما ولا مظلوما ، فلا يدع من حوله يتخذون قراراته آمرين إياه بما يفعل ومالا يفعل ، وإنما يطلب من الله أن يهديه سواء السبيل ، واعلم أنك إذا كنت تبتغي فيما تريد رضا الله وتحصين نفسك وتبعد عما يغضبه ، وتخلص النية له وحده فإنه سيكون عونا لك، ولا يدعك

واعلم انك إذا استطعت أن تخفي الحقيقة عن كل الناس فلا تخفيها عن الله ، لذا أخلص لله يكن معك ، ومن يكن الله معه فمن عليه ، فلا ندع غيرنا يحدون من قدرتنا على تنفيذ ما أردنا ، فلعلهم لا يرون ما نريد كما نرى ، فإذا ما تريد لا يغضب الله ارفع اكف الضراعة إليه واطلب منه الهداية ، فربما نحتاج أن نفكر فيما نقول ونفعل ونسمع ، وما الغاية منه، وعلينا أن نربط بين كل الرؤى ونحللها، ونقف أمامها محللين إياها مناقشين أنفسنا بروية، حتى نرى الصورة بشكل أفضل، فلا تكن فريسة لأهواء غيرك ومصالحهم، أو حتى فريسة للإحباط الذي يفت عضدك فيقتلك ويسرق سعادتك

عليك أن تعيد أوراقك وتلملم شتات أفكارك لتصنع منها خط أمل جديد ، ولا بأس من أن تأخذ فاصل تقوم فيه بخفض رأسك أمام الريح لا للانكسار ولكن لجمع الأفكار ، وبناء جسرا جديدا يمر بك حيث تريد العبور وقتما أراد الله ، فكل شيء عنده بمقدار ، فربما اختار الله لك وقتا وظروفا أحسن ، بل وربما اختار لك آخرون ليجري الخير على أيديهم ، فتتعجب من حكمة الله وكيفية تدبيره لأمرك وجميل صنعه بك ، ولعل الأحلام تتحقق مع من أراد الله لك ، فقط اطلب الهداية من الله وتوكل عليه حسن التوكل وثق في رحمته ، فربما أراد الله أن يزيد من عزيمتك ، وأن يعلمنا من أين يكون الطريق ، حيث ينير بصيرتنا نحو طريق النجاة ، فربما لا نعرف من أين نتجه وكيف ، وهنا لا تتردد في رفع يدك لله ، وفي قلبك أمل فيه ، لا تغلق الأمل دونك ، واجعل أملك فيمن خلقك ، يفك كربك ويمنحك ما تريد كيفما هو يريد ووقتما يريد ، فإذا كان الأمل معلق بالرحمن الرحيم ، لا ينقطع أبدا وربما يوحي إليك أمرا يكون طوقا للنجاة ، تشبث به ولا تتركه حتى لا تكون أخطأت في حق نفسك ، ولا تحيا ما تبقى لك من عمر ، تُكن البغض والكراهية وسوء الحظ في نفسك ، فتَكُن كما أصبح البعض لا يحب نفسه ولا يعرف معنى الحب بل يدمر نفسه ومن استطاع

إن الإحساس بالعجز والضعف وفقدان الثقة والأمل والتراحم يجعل الإنسان عرضة للاضطرابات النفسية التي تأتي على الأخضر واليابس فلا يكسب، هنا تكون أنت من فرطت في نفسك وأحلامك وتركتها لقمة صائغة في فم الآخرين يبتلعون إياها دون شفقة بصاحبها، لا لشيء إلا لأنه كان ضعيفا استغنى عن حلمه وتركه ، فلا تتمسك الأحلام بمن يستغنى عنها لأنها أبية عزيزة النفس أكرم من أن تأتي لمن يبيعها ، دون أن يجتهد ويسعى لتحقيقها ، فلن يبلغها إلا ذاك العقل الحكيم الواثق في الله المستمسك بالنور الرباني الذي يولد في قلبه من لحظات المحن ، ذاك النور الذي يجعل من المحن منح ، نحيا نتذكرها ونتعلم منها ونعتبر؛ ليولد لدينا مزيدا من الأمل والثقة وحسن الظن بالله ، وفي قضاء الله، ذلك النور الذي يهبه الله لمن يشاء، وإذا أردت أن تدركه عليك أن تلجأ لا محالة لربك داعيا راجيا واثقا في رحمته هنا تأتي ………..

النقطة الثانية: هي استجابة الله عز وجل وسرعة حصول المراد فيوحي إليك ما أراد أن يوحي لتجد النور الذي في قلبك خرج وامتد حولك وأضاء لك الطريق ، وأرشدك في أي اتجاه تسير وتفكر ، هنا يكون الوحي طاقة يعطيها الله إياك ، وينبثق من تلك الطاقة حلا بل حلولا تجعلك ترى الأمور بشكل مختلف ، ولا تبكي على ما هو فات ، وإنما تفكر فيما هو آت ، دون أن يقلل ما مضى من عزيمتك ، لكن علينا جميعا أن نتعلم مما يحدث لنا وندرك الأخطاء ، ونحللها وتحلل كل ما يعيد لك ما افتقدته ، وتعيد بدء مرحلة جديدة ، تعرف فيها جيدا ما الذي يجب أن تتخذه من تدابير لتعالج قضيتك أو تحقق حلمك ، فلا يلين الإنسان في موقف لا يحتمل ذلك أو العكس ، يعلم متى يكون هذا أو ذاك ومع من ، وإنما هي الحكمة حتى لا تكون مثيرا للشفقة والعطف من أناس بعضهم قد لا يعرف كيفية بناء جسور التواصل والتفاهم ، حتى مع أقرب الناس إليهم ، فلم ينسوا الماضي وعاشوا في ذكراه السوداء صابغين إياه بصبغة الكره وعدم الإحسان ، حتى أنهم لم يحسنوا لأنفسهم ويبدءون صفحة جديدة

علينا أن نعرف معنى الرحمة بأنفسنا ونتراحم ، حتى لا نجني ثمار البغض بغضا والضعف ضعفا و…….الخ ، علينا أن نستقوي بالله ونتجه إلى الله طالبين منه الهداية ؛ حتى نفرغ تلك الطاقة السلبية بداخلنا فلا تنسد القلوب وتُنكت بنكتات سوداء ، فنغضب الله وننغلق على أنفسنا ، بل يجب أن نملأ قلوبنا بالرحمة والرضا بقضاء الله فلعل ذلك هو الطريق ، طريق النجاة ونسأل الله أن ينير لنا الطريق ذاك الطريق الذي يحبه ويرضاه لنا واثقين في أن الله معنا

والحمد لله من قبل ومن بعد على قضاء الله فهو خيرة وفضل ونعمة لمن استسلم ورضا دون أن يقصر في حق نفسه أو الآخرين، بل أعطى ولم يستبقى شيء طالما استطاع إلى ذلك سبيلا ، قائلا ” أن معي ربي سيهدين” صدق الله العظيم ، اللهم خفف عن كل متألم ألامه ، ونجنا برحمتك من القوم الظالمين ، وارضي الجميع بجميل قدرك ، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرا منها ، وارفع قدرنا عندك واختار لنا الخير حيث كان برحمتك يا ارحم الراحمين اللهم أمين أمين أمين . خالص تحياتي وتقديري

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم