الخميس 16 مايو 2024 / 08-ذو القعدة-1445

فرغوهم .. ليخدموكم



لم أجرؤ على طرح هذا الموضوع قبل أن أحسم أمري، وأحزم أمتعتي، وأغادر مكتبي في الجامعة بعد تسعة وعشرين عاما من الدراسات العليا والعمل التعليمي والإداري، لأتقاعد مبكرا، بعد أن استحال الجمع بين العملين؛ العمل الرسمي الحكومي في الجامعة، وطبيعة الأنظمة الإدارية فيها، التي لا تفرق بين من ليس له أي جهد خارج دوامه، وبين من منَّ الله عليه بالعمل في مجال خدمي خيري، يأخذ معظم جهده ووقته وتفكيره وأسفاره، ويتطلب كثيرا من المشاركات هنا وهناك؛ من أجل إنضاج التجربة المحلية، وتصديرها للآخرين إذا رأوا فيها شيئا من التفرد والريادة.
كما أن العمل الخيري في المملكة العربية السعودية مرتبط بالمؤسسات الحكومية ودوامها الرسمي، مما يجعل التواصل معها ـ خلال دوامها ـ ضروريا للغاية.


وما من شك بأن القطاع الثالث يقدم ـ في بلادنا ـ خدمات عالية الجودة، بفضل الله تعالى، ثم بفضل ما توليه حكومة المملكة من اهتمام خاص بهذا القطاع، حيث يشُجع مباشرة من القمة، من أولياء الأمور، فهم أول الراعين لمناشطه، ويسهمون فيه بأموالهم، بل ولهم مؤسسات خيرية يمونونها بالكامل، وبما تحرص عليه تلك الجهات من تطور مستمر دفع رجال الأعمال، والمؤسسات المانحة التي تتأسى بتلك الخطى الحثيثة إلى دعم الخير المتدفق في أنهار من العطاء المتنوع، الذي شمل كل القطاعات بلا استثناء، الاجتماعية، والدعوية، والصحية، والاقتصادية، ونحوها.

لكن أكثر من يقودون هذه الأعمال العملاقة، يعملون ما يقارب ثماني ساعات في أول النهار، ثم يعودون إلى بيوتهم ساعة أو ساعتين، ليعودوا للعمل مرة أخرى في هذه المؤسسات المدنية حتى الليل؛ ليقدموا النور والخير والسعادة للآخرين.
ماذا لو فرغتهم وزاراتهم لهذا العمل على مِلاكها؟ إسهاما منها في بناء المجتمع المحلي، ومعالجة مشكلاته المختلفة.
ماذا لو اتخذت الوزارات المعنية بالتوظيف قرارات بتحويل الوظائف الأساس في المؤسسات الخيرية المرخصة، ذات الكيان المتكامل، إلى وظائف حكومية، إسهاما في معالجة مشكلة البطالة، حين تفرغ وظائف آلاف العاملين الرسمية؛ ليتفرغوا للخيرية، ليحل محلهم غيرهم من الخريجين والخريجات في الوظائف الرسمية؟

ماذا لو كُلفت الشركات الضخمة مثل سابك وأرامكو وسكيكو والمصارف وأمثالها بتبني عدد من الوظائف القيادية في المؤسسات غير الربحية، بما يطمئن المتفرغين لما يسمى الأمان الوظيفي؟
ماذا لو جعلت وزارة العمل مما يحسب للمؤسسات التجارية في (السعودة) أن تسهم بموظفين مهما كان عددهم قليلا أو كثيرا في الجهات غير الربحية، بدلا من الوظائف المقنعة، حيث توظف بعض الشركات والمؤسسات عددا من الشباب والفتيات ولا تطلب منهم أي عمل، مما يعودهم الاتكالية، ويطفئ في نفوسهم الحماسة، وقيمة العمل.

ماذا لو أسهمت وزارة الشؤون الإسلامية في توظيف المسؤولين من الصف الأول في المراكز الدعوية، ووزارة الشؤون الاجتماعية في الجمعيات التابعة لها، ووزارة الصحة في المؤسسات الأهلية الصحية، وهم يعلمون جميعا قدر الجهود التي تبذلها هذه المؤسسات، بينما تصب في النهاية في جهود تلك الوزارات وفقها الله تعالى.
العمل الخيري يتنامى في بلادنا بنجاح مبهر، ويكفل مئات الألوف من الأسر الفقيرة، والأيتام، والأرامل، وينشر الثقافة الشرعية بما يحفظ الله به أمن البلاد والعباد، وينشر الثقافة الأسرية بما يزيد من تماسك المجتمع وقوته، و… فكيف لو كُفي أبرز ما يقلقه، وهو ثبات الموارد البشرية الفاعلة، بتأمين رواتبهم بما يجعلهم في مستوى إخوانهم الذين يعملون في القطاعات الحكومية والأهلية، ويكفيهم هذا الجهد المضاعف بين عملين.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم