الجمعة 17 مايو 2024 / 09-ذو القعدة-1445

عشر ذي الحجة والأضحية ووجوب الحج



د. إبراهيم بن صالح التنمبقلم د. إبراهيم بن صالح التنم

 

شرع لنا ربنا أزمنة فاضلة تضاعف فيها الحسنات وتفتح فيها أبواب الرحمات، يتفضل الله بها على عباده بمضاعفة الأعمال الصالحة، ويعطيهم على القليل الكثير، يغفر فيها للمستغفرين، ويتوب فيها على عباده المؤمنين، ويجيب السائلين.

هي أزمنة تكرر كل عام، ومن وقت إلى آخر، منها شهر رمضان، ومنها الأيام العشر المباركة التي تطل علينا بعد أيام قليلة، إنها العشر الأولى من شهر ذي الحجة، أفضل أيام العام على الإطلاق، عظّم الله شأنها ورفع مكانتها وأقسم بها في كتابه العزيز، فقال جل وعلا: (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ). فالليالي العشر هي عشر ذي الحجة، والشفع هو يوم النحر، والوتر هو يوم عرفة.

أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من الجهاد في سبيل الله، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر))، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)) أخرجه البخاري، وفي رواية أخرى: ((ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في عشر الأضحى))، قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)) أخرجه الدارمي وحسنه الألباني في الإرواء.
 


في هذه الأيام العشر تجتمع أمهات العبادات، يجتمع فيها الصلاة والصيام والحج والصدقة والأضاحي والهدي وغيرها، والتي لا تجتمع في غيرها.


في هذه الأيام يوم عرفة، ذلك اليوم العظيم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم به النعمة على المؤمنين:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا)، فهو للحجاج أساس حجهم، فـ((الحج عرفة)) أخرجه أصحاب السنن وهو في صحيح الجامع (3172). ومن لم يقف بها فلا حج له. على صعيد عرفات, تجاب الدعوات وتقال العثرات وتغفر الذنوب والسيئات وتتنزل الرحمات، فـ: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة)) أخرجه مسلم.

في هذه الأيام العشر يوم النحر الذي هو أعظم الأيام عند الله، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر، ثم يوم القر)) أخرجه الترمذي وحسنه الألباني في المشكاة.


في هذا اليوم تراق دماء الأضاحي والهدايا تقربًا إلى الله عز وجل، فقد قرن الله الذبح بالصلاة (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) وقال جل وعلا:( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
فينبغي للمسلم الموفق أن يستقبل مواسم الخيرات بالتوبة الصادقة النصوح، التوبة من التقصير في الواجبات، والتوبة من ارتكاب المحرمات، والتوبة من التقصير في شكر نعم الله علينا، فكم من نعم أنعمها ربنا علينا قل أن نشكرها، وكم قصرنا في طاعة الله وما تبنا: ((من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده يملك قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) أخرجه الترمذي وابن ماجه وهو في صحيح الجامع (6042). فمن منا أدى شكر هذه النعم؟!
 


ينبغي على المسلم أن يغتنم مواسم الخيرات فيما يقربه إلى ربه ويرفع درجته في الجنة، وأولى الأعمال بالاهتمام هي الفرائض التي أوجبها الله على عباده، من صلاة وصيام وحج وزكاة وبر وصلة للأرحام، مع ترك المحرمات والمنكرات، فذلك أفضل ما تقرب به المسلم لربه جلا وعلا، وفي الحديث القدسي: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) أخرجه البخاري (6502). ثم يكثر بعد ذلك من نوافل العبادة وسائر الطاعات، فبها تكمل الفرائض وترفع الدرجات وتقال العثرات،: ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) , قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله أن يكون رفيقه في الجنة: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)) أخرجه مسلم.


يشرع في هذه الأيام المباركة الصيام، فـ ((ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا)) متفق عليه. ويتأكد صوم يوم عرفة لغير الحاج، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صومه فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) أخرجه مسلم.
 


ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام المباركة الإكثار من ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وقراءة القرآن والاستغفار، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتسبيح)) أخرجه أحمد وصححه أحمد شاكر.


وذكر الله عز وجل فيه أجر عظيم، وهو من أيسر الأعمال وأسهلها، فـ: ((لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خير لي مما طلعت عليه الشمس)) أخرجه مسلم (2695)، ويقول عليه الصلاة و السلام: ((من صلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كتب له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة)) أخرجه الترمذي وهو في صحيح الترغيب والترهيب (461).
 


ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام المباركة التقرب إلى الله بذبح الأضاحي، ففي ذلك أجر عظيم, وهي سنة أبينا إبراهيم , قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي. أخرجه أحمد والترمذي بسند حسن. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: ضحى النبي بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده. متفق عليه.


وذبح الأضحية سنة مؤكدة في أصح قولي العلماء، تتأكدُ في حق القادر عليها ومَنْ عنده سعة من المال لما فيها من إظهار العبودية لله تعالى، وليست واجبة, ولا بأس للمسلم من الاقتراض إن كان قادرًا على الوفاء، إحياء لهذه السنة المؤكدة. وتجزئ الأضحية الواحدة عن أهل البيت كلهم من الأحياء والأموات, ومن كان ابنه مبتعثاً للدراسة أو غيرها في بلد فيجزئ عنه أضحية والده في بلده.


أيها المسلمون: من أراد أن يضحي وهلَّ عليه هلال ذي الحجة فيجب عليه أن يمسك عن شعره وأظفاره وبشرته، فلا يقص منها شيئًا، إلى أن يذبح أضحيته، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي)) أخرجه مسلم، والحكمةُ في النهي أن يبقى كاملَ الأجزاءِ ليعتق من النار، وقيل: التشبه بالمحرم قاله النووي في شرح مسلم.


هذا النهي خاصٌ بصاحب الأضحية لا المُضحَّى عنه من زوجةٍ وأولادٍ فلا يعمهم النهي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحّي عن أهل بيته ولم يُنقل عنه أنه أمرهم بالإمساك عن ذلك، وكذا من توكَّلَ عن شخص فإنه لا يَحرُمُ عليه الأخذ، بل هو خاص بالموكِّل لا الوكيل، وكذا القائم على الوصايا فإنه لا يمسِك.

ومن أخذَ شيئًا من أظفاره أو أبشاره أو شعره معذورًا فلا شيء عليه كالناسي والذي به أذى في شعره أو ظفره، أما العامد فهو آثمٌ ولا كفارةَ عليه، بل عليه التوبة والاستغفار, والأضحية باقية بحالها, ومن كان عند الميقات يريد الإحرام وهو سيضحي فإنه لا يأخذُ شيئًا من شعره وأظفاره، وأما عند تحلله من العمرة والحج فإنه يأخذ من شعره فقط لأنه نسك من أنساك العمرة.


ولا بد أن تبلغ الأضحية السن المجزئة شرعًا، ففي الغنم ما أتم سنة كاملة، ومن الضأن ما أتم ستة أشهر، ومن الإبل ما أتم خمس سنين، ومن البقر ما أتم سنتين كاملتين، وتجزئ الإبل والبقر عن سبعة أشخاص، فلو اشترك سبعة في بعير أو بقرة أجزأت عنهم جميعًا.
 


ولا بأس بإعطاء الأضحية للجمعيات الخيرية لصرفها على الفقراء. لكن الأفضل أن يضحي الإنسان بنفسه، ويتولى توزيعها، فإن إظهار الشعيرة من مقاصد الأضاحي وهي عبودية لله.


ولا تجزئ الأضحية إلا إذا ذبحت في وقتها المحدد شرعًا، ويبدأ وقت الأضحية من بعد صلاة العيد، قال عليه الصلاة و السلام: ((من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين)) أخرجه البخاري (5226).ويمتد وقتها إلى قبل غروب الشمس من اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة.


ومن أحكام الأضحية أن تكون خالية من العيوب المخِلّة شرعًا، قال عليه الصلاة والسلام: ((أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسيرة التي لا تنقي)) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.



لكن لو تعيبت بعد شرائها أو تعيينها بغير تفريط منه فإنه يضحي بها، ولا حرج عليه في ذلك لأنه غير مفرط، فهو معذور في الشريعة.


وإذا كان أهل البيت سيضحون بأكثر من أضحية, فما أجمل أن يتذكروا إخواناً لهم من المسلمين خارج هذه البلاد فيخصوهم بجزء من أضاحيهم, فهم أحوج ما يكونون إلى الإغاثة والمساعدة, ونحن أحوج ما نكون إلى ثوابها.

وأن أعظم الأعمال وأجلها وأزكاها عند الله في أيام العشر المباركة هو حج بيت الله الحرام، الحج إلى تلك البقاع الطاهرة، إلى خير البلاد وأعظمها حرمة عند الله، وقد جعل الله في الحج أعظم الأجر وأجزل الثواب،: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) متفق عليه، أي: ليس عليه ذنب ولا خطيئة. وقال عليه الصلاة والسلام: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) متفق عليه.


قال ابن حجر رحمه الله: “والحج المبرور هو الذي وفيت أحكامه ووقع على أكمل الوجوه، الخالي من الآثام والمحفوف بالصالحات والخيرات من الأعمال”، وقال النووي رحمه الله: “الحج المبرور هو الذي لم يخالطه إثم”.


ولقد رغب الحبيب المصطفى في الحج والعمرة في أحاديث كثيرة, فقال: ((تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب و الفصة)) أخرجه النسائي وهو في صحيح الجامع (2900)، وقال: ((ما أهل مهل قط ولا كبر مكبر قط إلا بشر بالجنة)) أخرجه الطبراني وهو في صحيح الجامع (5569)، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من طاف بالبيت أسبوعًا فأحصاه كان كعتق رقبة، لا يرفع قدمًا ولا يضع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة وكتب له بها حسنة)) أخرجه الترمذي والنسائي وهو في صحيح الجامع (6380).
 


أيها الإخوة الكرام: لقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من تأخير الحج مع الاستطاعة أشد تحذير، فقال: ((تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) أخرجه أحمد وحسنه الألباني في الإرواء، وقال: ((إن الله تعالى يقول: إن عبدًا أصححت له جسمه ووسعت عليه في معيشته تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم)) أخرجه ابن حبان في صحيحه وهو في صحيح الجامع (1909)، وقال عمر بن الخطاب رض الله عنه: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من كان له جِدة على الحج ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية؛ ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين) أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (من قدر على الحج فتركه فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا) أخرجه سعيد بن منصور في سننه.


أبعد هذا يبقى مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر تاركًا للحج وقد استطاع؟! كيف يلقى الله وقد ترك ركنًا من أركان دينه؟! ومن يضمن له البقاء إلى السنة القادمة حتى يؤدي فريضة الحج؟! فإن الأعمار بيد الله، فربما مات قبل أن يحج أو عرض له أمر من مرض أو فقر أو تغير في الأحوال في السنة القادمة فلم يستطع الحج.
 


ألا فاتقوا الله يا عباد الله، واحذروا التفريط والتكاسل وأن تشغلكم الدنيا عن طاعة الله، فإن في ذلك الخسران المبين في الدنيا والآخرة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ).


قطعت شهور العـام سهوًا وغفلة    ولم تحتـرم فيـما أتيـت المحرَّمـا


فلا رجبًـا وافيـت فيـه بحقـه ولا     صمتَ شهر الصوم شهرًا متمَّمًا


ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي    مضـى كنت قوّامًا ولا كنت محرِمًا


فهل لك أن تمحو الذنـوب بعبرة      وتبكـي عليهـا حسرةً و تندُّمـا


وتستقبل العـام الجديـد بتوبـة      لعلك أن تَمحـو بِهـا ما تقدَّمـا



 

 

اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدًا، ووفقنا لعمل الصالحات، واجعلنا من عبادك الصالحين يا رب العالمين.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم