الجمعة 10 مايو 2024 / 02-ذو القعدة-1445

مرايا البلاء



مرايا البلاء

عامر حمود العمري

كثيرًا ما يتصور الإنسان المرض في آلامه المتتابعة، وفواجعه المتلاحقة، وما يتبع ذلك من تناول أدويته الشبيهة بالداء في مرارتها وصعوبة مذاقها، وربما يترتب على ذلك المرضِ تدخُّلٌ جراحي؛ ليدخل ذلك الإنسان في دوامة البتر والاستئصال، ولربما فقَد شيئًا من أعضائه أو فقد حياته بالكلية.

وكم فيك أيها المرض المدثَّر بالكدر والتعب، والمتقد بالألم والسقم، من المنح والهبات! ولو لم يكن فيك إلا انكسار قلب صاحبك بين يدي خالقه، وتضرُّعه له، ومعرفة عجز نفسه وفقرها لخالقها، ونكوصها عن باطلها، ومشاهدتها كل حيل الدنيا وأسبابها عاجزةً أن تقدِّم لها ما يرفع عنها المرض، أو يخفِّف عنها الألم – لكفى! ليعتمد ذلك الإنسان على ربِّه وخالقه، ويقطع كل صلات التوكُّل على غيره، ويجأر بصوت مكلوم بالمرض، وقلبٍ خلا من صلة أو اعتماد على غيره، فيقول: يا رب! ويشعر وهو يردِّدها بهتاف أيوبَ وقد وهنه المرض: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]، يشعر أن الهتاف الصادق هو ذلك الهتاف المنبثِق من قلب رضِي بقدر الله، وهتف عن جزم ويقين بأنه لا يرفع الضرَّ إلا اللهُ، ولا يهب العافيةَ سواه، يكفي أن يرى المبتلى أنه من أولئك القوم الذين تعاقبوا وتتابعوا على صفة اللجوء إلى الله، ويشعر أنه في زمرة المبتلَيْنَ الذين قال الصادق المصدوق عنهم كما في سنن النسائي: ((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم)).

وعند أحمد والترمذي مرفوعًا: ((إن الله إذا أحَبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضَا، ومن سخط فله السخط))، زَادَ أحمد: ((ومن جزَعَ فله الجزع))، ويتذكر وهو يحتسي كأس الصبر على البلاء قولَ بَعْض الحكماء: “العاقل يفعل فِي أول يومٍ من المصيبة، ما يفعله الجاهل بعد أيام”، وقول: “من لم يصبر صبْرَ الكرام، سلا سُلُوَّ البهائم”، وخير من هذا ما ثبتَ فِي الصحيح مرفوعًا: ((الصبر عند الصدمة الأولى))، قَالَ الأشعث بن قيس: “إِنَّكَ إن صبرت إيمانًا واحتسابًا؛ وإلا سلوت سُلُوَّ البهائم”.

ألا فليعلم المُبتلى أن الَّذِي ابتلاه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البَلاء ليهلكه، ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه؛ وإنما ابتلاه ليمتحنَ صبره ورضاه عنه، وإيمانه بقضائه وقدره، وليسمَعَ تضرُّعَه وابتهالَه، وليراه طريحًا ببابه، لائذًا بجنابه، مكسورَ القَلْبِ بين يديه، رافعًا شكواه إليه؛ ليرفعه لمنزلة عالية في الجنة تقازم عمله الصالح دون بلوغها!

قال الشَّيْخ عبدالقادر الجيلاني: “يا بني، إن المصيبة ما جاءت لتهلكك؛ وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك، يَا بني، القدَر سبُع، والسبُع لا يأكل الميتة”.

و المصيبة للعبد أشبه ما يكون بالكير للذهب والفضة، فإما أن يخرجَ ذهبًا أحمرَ، وإما أن يخرجَ خبثًا، على حد قول القائل:

سَبَكْنَاهُ وَنَحْسَبُهُ لُجَيْنًا

فَأَبْدَى الكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ

والمقصود أن الإنسان يعود حال المصيبة إلى خالقه وموجده ومولاه، ويعلم يقينًا أن هذا هو اختيار الرحيم الرحمن الكريم الجواد، ويُلزم نفسَه الصبر والرضا مع تعلُّق نفسه بموعود الله للصابرين وتطلُّعه للحظة لقاء المحبِّين الذين سبقوه في الصبر واحتساب الأجر، وحاشا والله على الكريم الجواد الرحيم الرحمن الرؤوف الودود أن يخذل من رجاه، ويرد من دعاه، ويَحْرِم ساعيًا مِن مسعاه؛ فهو القائل في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي: إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر)).

فيا أيها المبتلى بمرض أو فقر أو سجن أو تشريد أو ظلم أو تعذيب أو فقد حبيب أو قريب، رسالتي إليك أن ترسخ قدمك على مقام الصبر والاحتساب؛ فإن خليل الله أضجَعَ ولدَه وفلذة كبده للذبح، وغرِق ابن نوح وهو يهتف له، ومكث يوسف في السجن بضع سنين، وباعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، والتحف أيوبَ المرضُ بعد فقد الأهل والمال، ويونس التقمه الحوت وهو مليم، والطريق والله معمور بسير الصالحين؛ فأشدهم بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى المرء على قدر إيمانه.

اللهم إني أسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة يا كريم.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم