الجمعة 17 مايو 2024 / 09-ذو القعدة-1445

زيارة إلى بيت المصطفى (صلى الله عليه وسلم)



زيارة إلى بيت المصطفى (صلى الله عليه وسلم)

أمير المدري

الحمد لله الذي  جمع قلوب المؤمنين على الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الديان، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إلى الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل البر والإحسان، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين:

أخي :

سنقوم وإياك اليوم بزيارة، فتجهز, أعد  العُدّة للانطلاق.

نحن اليوم على موعد مع أفضل زيارة، وأحب زيارة إلى قلوبنا، زيارة إلى أين؟ زيارة إلى بيت الطهر والشرف، إلى بيت الجود والكرم إلى بيت حبيب قلوبنا ونور أعيننا، نعم اليوم مع موعد مع زيارة  بيت خير البرية محمد -صلى الله عليه وسلم-؛  لنرى رسول الله مع أهله وفي بيته .

اللهم وفقنا للحج والعمرة وزيارة مسجد نبيك يا أكرم الأكرمين.

سنعود قرونًا خلت ونقلّب صفحات مضت، نقرأ فيها ونتأمل سطورها.

إنها رحلةٌ مباركة، إنها عظةٌ وعبرة، وسيرةٌ وقدوة، وإتباعٌ واقتداء .

ها نحن نطل على المدينة النبوية وهذا أكبر معالمها البارزة بدأ يظهر أمامنا، إنه جبل أحد الذي قال عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «هذا جبلٌ يُحِبُنا ونـُحبه » [متفق عليه].

وقبل أن نلج بيت الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونرى بناءه وهيكله، لا نتعجب إن رأينا المسكن الصغير والفُرش المتواضعة، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أزهد الناس في الدنيا وقد قال -صلى الله عليه وسلم-  عن الدنيا: »مالي وللدنيا؛ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يومٍ صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها« [أخرجه الترمذي ( 4 / 508 ) رقم ( 2377 ) وقال: حسن صحيح وابن ماجه ( 2 / 1376 ) رقم ( 4109 ). وأحمد ( 1 / 301 ). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم ( 5668، 5669 )].

وقد أقبلنا على بيت الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونحن، نستحث الخُطى سائرون في طرق المدينة، ها هي قد بدت حُجر أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مبنية من جريد النخل عليه طين، بعضها من حجارة، وسقوفها كلها من جريد النخل. وكان الحسن-رحمه الله-   يقول: «كنت أدخل بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم-في خلافة عثمان فأتناول سٌقفـَها بيدي «. [الطبقات الكبرى لابن سعد: 1 / 499، 501، و السيرة النبوية لابن كثير 2 / 274. ]

ونحن نقترب من بيت النبوة ونطرق بابه بأظافرنا استئذانًا، ونحن في شوق لرؤيته والسلام عليه.

لندع الخيال يسير مع من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصفه لنا كأننا نراه، لكي نتعرف على طلعته الشريفة ومحياه الباسم.

عن البراء بن عازب-رضي الله عنه  – قال: «كان النبي- -صلى الله عليه وسلم- – أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خلقًا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير®.

«وكان النبي  -صلى الله عليه وسلم – مربوعًا بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء لم أر شيئًا قط أحسن منه ® [رواه البخاري].

وسأله رجل: أكان وجه رسول الله –صلى الله عليه وسلم–مثل السيف؟ قال: لا بل مثل القمر». [رواه البخاري. ]وقال أبو هريرة -رضي الله عنه   -: ©ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله –صلى الله عليه وسلم–، كأن الشمس تجري في وجهه®، وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه   – قال: ©رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم–في ليلة (مقمرة)، وعليه حُلَّة حمراء، فجعلتُ أنظر إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم–وإلى القمر، فإذا هو عندي أحسنُ من القمر®.

وعن أنس  -رضي الله عنه  –  قال: «ما مسست بيدي ديباجًا ولا حريرًا، ولا شيئًا ألين من كف رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- ، ولا شممت رائحة أطيب من ريح رسول الله  -صلى الله عليه وسلم – ®. [متفق عليه. ]

أما وقد رأينا الرسول – صلى الله عليه وسلم- وبعض صفاته أُذن لنا واستقر بنا المقام في وسط بيت نبي هذه الأمة عليه الصلاة والسلام

إنه بيتٌ متواضع وحُجَرٌ صغيرة، تسع حجرات لكل زوجة حجرة هي البيت بكاملة، وقد بلغت مساحةُ كل واحدةٍ مِن الحجرة والفناء ثمانيةَ أذرُع طُولًا وعرضًا، نصف الحجرة لأهله، والنصف الثاني مقسوم بسترة لمن أتاه من الناس، وكان  -صلى الله عليه وسلم-  اذا أراد يسجد في صلاته النافلة وهو في بيته ترفع عائشة -رضي الله عنها – رجلها لضيق الغرفة ، بيت ليس بالواسع كبيوتنا لكنه عامر بالإيمان والطاعة، وبالوحي والرسالة!

إنه بيتٌ أساسه التواضع ورأس ماله الإيمان،  بيت نبوي مبارك، لا شرقي ولا غربي، في زمن طغت فيه الماديات وتباهى فيه الناس بأغلى المفروشات، تكاثر وتفاخر، بالدور والقصور، مُجَملة الظاهر، مزينة بالنمارق ولكنها خاوية الروح، وفاقدة الأنس بالله.

ها نحن نرى جدران بيت رسول الله تخلو من صور ذوات الأرواح التي يعلقها بعض ن الناس اليوم! ! فقد قال عليه الصلاة والسلام: »لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تصاوير« [صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق (3322)، وصحيح مسلم في كتاب اللباس (2106). من حديث أبي طلحة ا].

أما فراشه  -صلى الله عليه وسلم- فكان من  الجلد المدبوغ، حشوه ليف و هو ليف النخل، وكذلك هي الوسادة.

فكان –صلى الله عليه وسلم– ينام على الفراش تارة ، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة .

ويدخل   -رضي الله عنه  –  بيت النبي  -صلى الله عليه وسلم- يوما،  ويرمي ببصره إلى نواحي البيت فلا يكاد يقف على شيء من الأثاث سوى قِطَعٍ جلديّة رثّة، وجرّة بها ماؤه ووضوؤه، وصحافٍ قديمة ليس بينها مائدة طعام، ورفٍّ عليه شيء من الشعير الذي تصنع منه عائشة رضي الله عنها ما يأكلون.

وبينما كان عمر بن الخطّاب   -رضي الله عنه  –  غارقاً في تأمّلاته إذ قام النبي  -صلى الله عليه وسلم-  من حصيره وقد أثّر على جنبه الشريف، عندها تفجّرت مآقي الدمع من عيون عمر   -رضي الله عنه  –  ، ولم يستطع أن يحتمل أكثر من ذلك.

فسأله رسول الله عن سبب بكائه ودموعه فقال: “يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، على النمارق والحرير والديباج وأنت رسول الله” على حصير فقال  -صلى الله عليه وسلم- : ©أو في شك أنت يا ابن الخطاب: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ )  أولئك قوم عجلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا ® متفق عليه. .

رسول الله حبيب الله من تفتح له الجنة من يشفع للخلائق يوم العرض الأكبر كان أحياناً لا يجد ما يملأ بطنه  -صلى الله عليه وسلم – يمر عليه الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلّه في شهرين وما أوقد في بينته نار، أكلهم الأسودان التمر والماء، يظل أياما وليالي متتابعة بأبي وأمي طاويا هو وأهله لا يجدون ما يأكلون، وكان النبي  -صلى الله عليه وسلم-  يظل اليوم يلتوي من الجوع وما يجد من – رديء التمر – ما يملأ بطنه.

وخرج ذات يوم فلقي أبا بكر وعمر فقال: © ما أخرجكما من بيوتكما الساعة® قالوا: “الجوع يا رسول الله” قال: © وانا والذي نفسي بيده  أخرجني الذي أخرجكما®.

ربط من شدة الجوع الحجر على بطنه، وناولته فاطمة كسرة خبز فقال: © هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاث®، وخرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير بأبي وأمي  -صلى الله عليه وسلم-  عُرضت له مفاتيح الخزائن فأباها، واختار لنفسه ولأهل بيته عيشة الكفاف لا تحريماً للطيبات، ولا عجزا عن مُتع الحياة، ولكنه استعلاءٌ عن الشهوات، شعاره لا عيش إلا عيش الآخرة.

لنتأمل في حال رسول هذه الأمة وقائدها ومعلمها  -صلى الله عليه وسلم -؛  وهديه في التعامل مع زوجاته وهو القائل: © خيركم خيركم لأهله®.

كان بأبي وأمي جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم ويضاحك نساءه، كان لهن الزوج الحبيب، والجليس المؤانس، والموجه الناصح، لا يؤذيهن بلسانه أو بيده، وما ضرب بيده امرأةً ولا خادماً قط وكان يوصي أصحابه بزوجاتهم خيرا قائلا: © استوصوا بالنساء خيرا ®.

وكان يُسرِّب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها، وكان إذا هوت شيئاً لا محذور فيه تابعها عليه، وكانت إذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه في موضع فمها وشرب، وكان يتكئ في حجرها ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها، وربما كانت حائضاً.

إنه -صلى الله عليه وسلم- زوجٌ مثالي، قدوة عظيمة، زوج لا كالأزواج وصدق الله القائل: (  لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً  )  [الأحزاب: 21

لم تشغل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم – الرسالة، والنبوة عن إصلاح منزله ورعاية أسرته، ولم يخلو بيته -صلى الله عليه وسلم- من المشكلات الزوجية، ولم يسلم من صوت المنغصات والمكدرات مثَله مثل سائر البيوت.

تعالوا بنا نسائل زوجاته أمهات المؤمنين فنسمع منهن.

أخي الكريم: لو اكتشف أحدنا أن زوجته تشكّ في بعض تصرفاته، وربما تلصَّصَت على أقواله أو أفعاله أو تبعت خطواته هنا أو هناك، يدفعها إلى ذلك الرِّيبة وسوء الظن، ماذا سيصنع بها زوجها؟ وما موقفه من هذه الأنثى الضعيفة التي تجرح كبرياءه بشكّها وتهدّد قوامته برصدها ومتابعتها؟ أيلطمها ويسبّها، أم يتفوّه بطلاقها، أم يبادلها الشكّ والرِّيبة ويضع تصرّفاتها تحت مجهره وبين عينيه؟ ! ربما فعل أحدنا ذلك كله أو بعضه، ولكن دعونا نعرض ذلك على بيت محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهل وقع شيء من ذلك، وما الذي صنعه أفضل الخلق؟

تُحدثنا أمّنا أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-   قائلة: ألا أحدثكم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعني، قالوا: بلى، قالت: «لما كانت ليلتي التي كان فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- عندي فجلس فوضع رداءه، وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت فأخذ رداءه رويدًا، وانتعل رويدًا، وفتح الباب فخرج، ثم أجافه ـ أي: أغلقه ـ رويدًا، فجعلتُ دِرْعِي في رأسي، واختمرت وتقنّعت إزاري، ثم انطلقت على إثره حتى جاء البَقِيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت ـ والإحضار العدْو ـ فسبقتُه، فدخلتُ فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: «ما لك يا عائشُ حَشْيا رابيةً؟ » ـ يعني أنّ نفَسَها مرتفع ـ قالت: لا شيء، قال: «لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير»، قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فأخبرته، قال: «فأنتِ السّواد الذي رأيت أمامي؟ » قلت: نعم، فلَهَدَني في صدري لَهْدَة أوجعتني ـ ومعنى لَهَدَني: دفعني ـ ثم قال: «أظننتِ أن يحيف الله عليك ورسوله؟ ! » قالت: مهما يكتم الناس يعلمْه الله.

ثم انظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى أَرِيحيّته وسعة صدره وهو يبيّن لها في آخر الليل السبب الذي دعاه إلى ما صنع، قال: «فإن جبريل أتاني حين رأيتِ فناداني، فأخفاه منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعتِ ثيابك، وظننتُ أن قد رقدتِ، فكرهت أن أوقظكِ، وخشيتُ أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم» الحديث، [أخرجه أحمد 6/221. و”مسلم” 3/64].

ومثال آخر، لو طلبت زوجة أحدنا منه أن يساعدها في تنظيف المنزل أو ترتيب أركانه فما عساه يقول في جوابها؟ أيوافق مستبشرًا، أم يُكشّر غاضبًا وكأنّ رجولته قد انتقصت؟ ! أمّا محمد بن عبد الله فتقول عنه زوجه عائشة-رضي الله عنها-   فيما أخرجه البخاري عن الأسود قال: سألت عائشة -رضي الله عنها-   : ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: «كان يكون في مهنة أهله ـ تعني خدمة أهله ـ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة».

نعم تعامل الإنسان في بيته هو محكه الحقيقي الذي يبين حُسن خلقه وكمال أدبه هكذا كان رسول هذه الأمة وقائدها ومعلمها في بيته.

عباد الله: زيارتنا لبيت المصطفى لم تنته بعد ولنا وقفة أخرى ة قادمة ان شاء الله.

زيارة إلى بيت المصطفى (2-3)

الحمدُ لله بارئ النَّسم وخالق الخلق من عدم, نجي نوحاً في السفينةِ من الغرقِ الذي عم, وسلَّم موسي من طغيان فرعونَ ونجاه من اليم, وأشهد أن لا اله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له شهادة من آمن به وأسلم وانقاد واستسلم, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ونبيه وخليله، وأمينه على وحيه، قرن الله ذكره بذكره علي لسان كل ذاكر, وشَرُفت برسالته المنائر والمنابر, اللهم صلّ وسلم علي محمدٍ وعلي آله الأطهار الأبرار وصحبه المصطفين الأخيار .

يارب احشرنا في زمرته، واعنا على اتباع سنته، ,وأوردنا حوضه.

هذا هو اللقاء الثاني مع تلك الرحلة الماتعة، والزيارة المباركة التي عشنا جزءًا منها بين جَنَبات بيت النبي المصطفى،  ذلك البيت الرائع الجميل الذي عاش بين جدرانه أفضل وأكمل وأعظم زوج وطئت قدمه الأرض عليه الصلاة والسلام، عاش فيه مع تسع نسوة هن زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. بيت الطهر والنقاء بيت الإيمان والصفاء، بيت ينزل إليه وحي السماء.

كان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-   يحب المرأة. . إنسانا ً. . وأُمّا ً. . وزوجة. . وبنتاً. . وشريكة في الحياة.

ها هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-    يحدثنا عما علمه وسمعه وشاهده فيقول: كنا ـ معشر قريش ـ نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخِبتُ على امرأتي فراجعتني ـ أي: ردت علي القول وناظرتني فيه ـ فأنكرت أن تراجعني، قالت: ولِمَ تنكر أن أراجعك؟ ! فوالله، إن أزواج النبي ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم إلى الليل، فأفزعني ذلك، وقلت لها: قد خاب من فعل ذلك منهن، ثم جمعتُ عليّ ثيابي فنزلت فدخلتُ على حفصة ابنتي ـ زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ فقلتُ لها: أي حفصة، أتغاضب إحداكن النبي اليوم حتى الليل؟ ! قالت: نعم، قلت: قد خبت وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلِكي؟ ! الحديث، [أخرجه البخاري].

أيها الأحباب: لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحاكم السياسي، والقائد العسكري والمفتي الشرعي، والزوج المثالي، والأب القدوة في بيته- -صلى الله عليه وسلم- – نعم فالإسلام دين ودولة وخلق وعلم، ودنيا وآخرة.

ولم يحول النبي – -صلى الله عليه وسلم- – بين أهله وبين ما أباح الله تعالى فمن ذلك ما ترويه عائشة -رضي الله عنها-    أنها قَالَتْ: ©خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ   -صلى الله عليه وسلم-   وَأنا خَفِيفَةُ اللَّحْمِ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: تَقَدَّمُوا ثُمَّ قَالَ لِي: تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ فَسَابَقَنِي فَسَبَقْتُهُ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ فِي سَفَرٍ آخَرَ، وَقَدْ حَمَلْتُ اللَّحْمَ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: تَقَدَّمُوا ثُمَّ قَالَ لِي: تَعَالَيْ أُسَابِقُكِ فَسَابَقَنِي فَسَبَقَنِي فَضَرَبَ بِيَدِهِ كَتِفِي وَقَالَ: هَذِهِ بِتِلْكَ» [أخرجه أحمد [6/ 39]، وأبو داود [3/ 29- 30]، كتاب الجهاد: باب في السبق على الرجل، حديث [2578]، والنسائي في “الكبرى” [5/ 303- 305]، كتاب عشرة النساء].

أخلاقٌ عالية، ومعاملةٌ مثالية راقية، رسول الله رئيس الدولة يتسابق مع زوجته؛ ليدخل عليها السرور والفرحة، ليسمو بالحياة الزوجية لتكون أقدس علاقة وأقوى رباط، لا تزيدها العواصف والمشاكل الزوجية إلا قوة إلى قوتها.

أخي القارئ:

إن بيت النبي   -صلى الله عليه وسلم-  لم يكن يخلو مما يكون بين الضرائر من النزاع والشقاق والتنافس، ومع هذا كان مثالاً للزوج الحكيم الحليم الذي لا تأخذه العزة بالإثم أو يعجل في العقاب، أخرج البخاري عن عائشة -رضي الله عنها-    أن نساء رسول الله كُنّ حزبين، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسَوْدة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله عائشة -رضي الله عنها-   ، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله أخّرها، حتى إذا كان رسول الله في بيت عائشة بعث صاحب الهدية إلى رسول الله في بيت عائشة، فكلّم حزبُ أم سلمة فقلن لها: كلمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكلم الناس فيقول: «من أراد أن يهدي إلى رسول الله هدية فليهدها حيث كان من بيوت نسائه»، فكلمته أم سلمة بما قلن فلم يقل لها شيئًا، فسألنها فقالت: ما قال لي شيئًا، فقلن لها: فكلّميه، حتى تكرر ذلك ثلاثًا فما زاد أن قال لها: «لا تؤذيني في عائشة؛ فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة»، فقالت: أتوب إلى الله من ذاك يا رسول الله، ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله فأرسلت إليه تقول: إن نساءك يُنشدنك العدل في بنت أبي بكر، فقال: »يا بُنيّة، ألا تحبّين ما أحب؟ ! « قالت: بلى، فرجعت إليهن فأخبرتهن، فقلن لها: ارجعي إليه فأبت، فأرسلن زينب بنت جحش فأتته فأغلظت وقالت: إن نساءك يُنشدنك الله العدل في بنت ابن أبي قُحَافة، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة -رضي الله عنها-    وهي قاعدة فسبّتها، حتى إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لينظر إلى عائشة -رضي الله عنها-    هل تكلّم، فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها، قالت: فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عائشة وقال: «إنها بنت أبي بكر»[ أخرجه البخاري 3/204 ].

انظر ـ يا رعاك الله ـ كيف عرف رسول الله طبيعة المرأة وضعفها في المواقف وسرعة ثورتها، حتى إنها لم تدرك وصفها لرسول الله بترك العدل، بل وأسرعت إلى عائشة وسبّتها ورسول الله جالس، بل وأغلظت القول للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأكثر من ذلك، وعلى الرغم من هذا كله لم يؤاخذها ولم يعاتبها، بل ترك المجال لعائشة أن تدافع عن نفسها، وعفا هو عن حقّه-صلى الله عليه وسلم- .

وأخرج البخاري عن أنس -رضي الله عنه-    قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصَحْفَة فيها طعام، فضربت التي النبيُ في بيتها يدَ الخادم، فسقطت الصَّحْفَة فانْفَلَقت، لو كنت أنت أخي الحبيب قل لي ماذا ستفعل؟

ثم جمع النبي فِلَقَ الصَّحْفَة، وجعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصَّحْفَة، ويقول: »غارت أمُّكم«. ثم حبس الخادم حتى أُتِي بصَحْفَة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصَّحْفَة الصحيحة إلى التي كُسِرت صَحْفَتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرت.

فلله درّه من مُربّ، عدلٌ في التعامل، ورفقٌ بالجاهل، لا صراخ ولا  تهديد ولا وعيد، فسبحان من أدّب نبيه فأحسن تأديبه.

بيت كريم فيه تُغرس الأخلاق، ويُعلم فيه تعاليم الدين، والقيم النبيلة.

فعن أنس -رضي الله عنه-    قال: © بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: قالت لي حفصة إني بنت يهودي، فقال النبي- -صلى الله عليه وسلم– ©: إنك لابنة نبي، وإن عمك نبي، وإنك لتحت نبي ففيم تفخر عليك؟ ثم قال: اتقي الله يا حفصة ® [أخرجه أحمد 3/135 (12419). وعبد بن حميد (1248). والترمذي (3894)].

وسمع عائشة تغار من حفصة وتقول حسبك من صفية كذا وكذا تعني أنها قصيرة فقال: ©لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته® [صحيح الجامع 5140. ].

وروى الإمام أحمد وصححه الألباني عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه-    قال: جاء أبو بكر يستأذن على النبي  -صلى الله عليه وسلم-  , فسمع عائشة و هي رافعة صوتها على رسول الله – -صلى الله عليه وسلم–? فأذن له , فدخل , فقال لها وهو غاضب: يا عائشة أترفعين صوتك على رسول الله   -صلى الله عليه وسلم-?! وأراد ضربها : فحال النبي بينه و بينها. قال:  فلما خرج أبو بكر جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها – يترضاها -ألا ترين اني قد حلت بينك وبين أبيك® .

الرسول – -صلى الله عليه وسلم– خير من مشى على الأرض يترضى زوجته فلما كلمها ضحكت قال: ثم جاء أبو بكر فاستأذن عليه , فوجده يضاحكها , فأذن له , فدخل , فقال له أبو بكر: ©يا رسول الله! أشركاني في سلمكما , كما أشركتماني في حربكما ®. وضحك الثلاثة في بيت من؟ في بيت محمد – -صلى الله عليه وسلم– ألا يستحق أن يقول الله عنه: ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [القلم: 4].

كان –صلى الله عليه وسلم– إذا غضبت زوجته وضع يده على كتفـها وقال»:  اللهم اغفر لها ذنبـها وأذهب غيظ قلبها، وأعذها من الفتن. «أرئيتم مثل هذا الحب والعاطفة؛ إنه المصطفى الذي رفع شعار لأمته: ©خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي«[صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب النكاح – باب حسن المعاشرة (1977)، وابن حبان: كتاب النكاح – باب معاشرة الزوجين – ذكر استحباب الاقتداء بالمصطفى. . . حديث (4177). قال البوصيري في زوائد ابن ماجه: هذا إسناد ضعيف. . . ولكنه ذكر شواهد له (2/117، 118)، وصححه الألباني بشواهده. في السلسلة الصحيحة (285)].

لقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمثلة رائعة من خلال حياته اليومية في التعامل مع المرأة كزوجة . . فنجده:

أولاً: يمتدحها فمن أعظم ما يكسب قلب المرأة أماً وأُختاً وزوجة المدح يقول: -صلى الله عليه وسلم- »إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». [ صحيح البخاري: كتاب المناقب (3769، 3770)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2431، 2446) عن أبي موسى الأشعري وعن أنس بن مالك  . ]

ثانياً: ينظر إلى محاسنها ويتغافل عن مساوئها: لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة إن كره منها خُلقاً رضي منها آخر «. [ صحيح مسلم ح (1469). ]

ثالثاً: لا ينشر خصوصياتها: قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن من أشر الناس عند الله منزله يوم القيامة الرجل يفضى إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها. «[ أخرجه أحمد (3/69)، ومسلم (1437) بمعناه، وفي إسناده: عمر بن حمزة العمري. قال ابن حجر في التقريب (4918): ضعيف. وضعف هذا الحديث الذهبي في ميزان الاعتدال (3/192). وانظر آداب الزفاف للألباني ص (142). ]

رابعاً: يعرف مشاعرها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة  -رضي الله عنها-   : «انى لأعلم إذا كنت عنى راضية وإذا كنت عنى غضبى. . أما إذا كنت عنى راضية فانك تقولين لا ورب محمد وإذا كنت عنى غضبى قلت: لا ورب إبراهيم» [(مسلم 2439). ]

خامساً لا يضربها، ولا يهنها، قالت عائشة -رضي الله عنها-   »: ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة له قط» [صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2328)].

لقد عاشت زوجاته معه عليه الصلاة والسلام عيشةً كريمة ملؤها الحب والوئام فلا صخب بينهم ولا صراخ ولا عنف ولا إهانة.

إليكم بعض الإحصائيات مما تعانيه المرأة في بلاد الغرب الذين يدّعون حقوق المرأة، فمثلا بريطانيا تستقبل شرطة لندن وحدها مائة الف مكالمة سنويا من نساء يضربهن أزواجهن على مدار السنين الخمس عشرة الماضية، و79% من الأمريكيين يضربون زوجاتهم، و 83% دخلن المستشفى مرة واحدة على الأقل للعلاج من أثر الضرب ومليوني فرنسية يضربهن أزواجهن سنويا فأين حقوق المرأة المزعومة.

عباد الله: إن العلاقة بين الزوجين لا تنقطع بالموت، بل يبقى حبل الود بإكرام أهل ود الزوج أو الزوجة حتى بعد موته، ولنا في نبينا الأسوة الحسنة في مثل هذا.

تقول عائشة -رضي الله عنها-    كما عند مسلم: ما غِرْتُ للنبي -صلى الله عليه وسلم- على امرأةٍ من نسائه ما غِرْتُ على خديجة؛ لكثرة ذكره إياها، وما رأيتها قط.

وكان رسول اللّه إذا ذبح الشّاة يقول: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة»، قالت: فأغضبته يومًا فقلت: خديجة -رضي الله عنها-   ! فقال رسول اللّه: «إنّي قد رُزِقت حُبّها«[ صحيح مسلم: ج4/ص1888 ح2435]

واستأذنت هالة بنت خويلدٍ أخت خديجة على رسول اللّه، فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال: »اللّهمّ هالة بنت خويلدٍ«، فغِرْت فقلت: وما تذكر من عجوزٍ من عجائز قريشٍ، حمراء الشّدقين، هلكت في الدّهر، فأبدلك اللّه خيرًا منها؟ ! زاد الإمام أحمد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: »ما أبدلني الله خيرًا منها؟ ! قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد النساء»[ أخرجه أحمد (6/117، رقم 24908) قال الهيثمي (9/224): إسناده حسن ] .

الله أكبر انظروا إلى الوفاء المحمدي.

عباد الله: نحن بحاجة إلى أن نعود ونلتصق بسيرة وحياة النبي –صلى الله عليه وسلم- لنحيا حياة طيبة مباركة

زيارتنا لبيت النبي  -صلى الله عليه وسلم-  لم تنتهي بعد وللحديث بقية .

زيارة إلى بيت المصطفى  (3-3 )

الحمد لله الحي الذي لا يموت ولا يزول، سبحانه قدّر لكل مخلوق رزقه؛ فالكل على جناح النعمة محمول، له في كل أمر ٍحكمة، وان ذهلت عنها العقول، يسمع ويرى وستره على العصاة بالليل والنهار مسدول.

فيارب مُنّ علينا جميعا بالرحمة والمغفرة والرضوان والقبول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يشغله شأن عن شأن وغيره عن شأنه مشغول، لا يُسأل عما يفعل وكل من في السماوات والأرض لديه مسؤول، وأشهد أنّ نبينا محمداً عبده ورسوله، دعوة الخليل، وقُرّة عين إسماعيل، وبشرى ابن البتول، طوبى لمن صلى عليه؛ فبالصلاة عليه كل الهموم تزول.

اللهم صلّ وسلم على سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين طاعة لله وحُبا للرسول.

لا زلنا في  زيارتنا وإياكم – إلى بيت النبي – -صلى الله عليه وسلم- -لنرى كيف يعيش، كيف يتعامل مع أهله وأولاده، كيف يقضي يومه بأبي وأمي- -صلى الله عليه وسلم- وهذا هو اللقاء الثالث .

كان رسول الله – -صلى الله عليه وسلم- -يهتم كثيرا بأولاده، وأحفاده يعتني بهم ويحسن تربيتهم، وكان له من الأبناء ثلاثة: القاسم، وإبراهيم، وعبد الله الذي كان يلقب بالطيب الطاهر، ومن البنات أربع: رقية وأم كلثوم وزينب وفاطمة، وماتوا كلهم جميعًا في حياته، ما عدا فاطمة- -رضي الله عنها-   -، فقد تأخرت وفاتها إلى ستة أشهر بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.

ومما يدل على عنايته بأولاده، وحسن تعامله معهم: ما جاء في حديث عائشة – -رضي الله عنها-   -قالت: كن أزواج النبي   -صلى الله عليه وسلم-  عنده، فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله – -صلى الله عليه وسلم- -شيئًا، فلما رآها رحب بها فقال: ©مرحباً بابنتي®، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله”[ رواه البخاري].

وعن عائشة -رضي الله عنها-    أيضًا قالت: ( كانت فاطمة إذا دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها”. [ متفق عليه].

وكان  -صلى الله عليه وسلم- يرق لوجع أولاده وبناته ويبكي عليهم إن فارقوا الحياة بالموت، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-   قال: دخلنا مع رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- فأخذ  إبراهيم فقبّله وشمّه ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- تذرفان، وقال: ©إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون®[ متفق عليه].

لقد كان بيت رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- قدوة، و أُسوة في حسن التعامل مع الناس؛ مع خَدَمه ونسائه وأولاده وضيوفه ومن يأتيه من أصحاب الحاجات، فعن أنس بن مالك -رضي الله عن-    قال: خدمت رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله ما قال لي: أفاً قط، ولا قال لي لشيء: لمَ فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا”. [متفق عليه].

فيا أيها الأحباب، لتكن بيوتنا كبيتِ رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- نقاءً وطهارة، وصلاحًا وعبادة، وزهداً وكرمًا، ومعاملة وحسن عشرة،

دعونا نعيش وإياكم وقتًا يسيراً ننظر فيه ماذا كان رسول الله يعمل في يومه وليلته داخل ذلك البيت الطاهر، وكيف كان حاله فيه؛ فبعض الناس قد تختلف أحوالهم داخل البيت وخارجه، فقد يكون الإنسان خارج البيت حملٌ وديع ذو أخلاقٍ عالية، وداخل البيت أسدٌ هصور.

لقد كان رسول الله   -صلى الله عليه وسلم-  يستعد لصلاة الفجر، فإذا أذن المؤذن،  صلى سنة الفجر في البيت، فيركع ركعتين خفيفتين، يقرأ فيهما بالكافرون والإخلاص، وهي أحف صلاةٍ يصليها، ولكنها خيرٌ رمن الدنيا وما فيها كما قال عنها عليه الصلاة والسلام، وقد يضطجع على شقه الأيمن منتظراً مجيء بلال بن رباح -رضي الله عنها-    ليُعلِمه بإقامة الصلاة، . . . .

ثم ينطلق رسول الله   -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد ذاكرا لله و داعيا: © بسم الله توكلت، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا. . . . الخ الدعاء المأثور، ويدخل المسجد ويقول ما ورد، ثم يأمر بتسوية الصفوف ويُكبّر وكان يطيل في الفجر ويقرأ ما بين الستين إلى المائة آية، وكانت قراءته مترسلة مُفَصَّلة، وكان في فجر الجمعة يقرأ فيها بالسجدة والإنسان، وربما قنت بعد الركوع الثاني أحيانا إذا نزلت نازلة بالمسلمين، فإذا انتهى من صلاته استغفر وأتى بأذكار الصلاة ثم يأتي بأذكار الصباح ويبقى في المسجد يذكر الله حتى تطلع الشمس بيضاء نقية قبل أن يرجع إلى أهله. فعن جابر بن سمرة  -رضي الله عنا-  قال: ©كان النبي   -صلى الله عليه وسلم  -إذا صلى الفجر تربّع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء®[ رواه أبو داود، وهو صحيح. . ]وهو الذي حثنا على ذلك وقال: ©من صلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كتب له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة® [أخرجه الترمذي وهو في صحيح الترغيب والترهيب (461)].

وبعد ذلك يعود – -صلى الله عليه وسلم- -إلى بيته وقد يجد بعض زوجاته جالسة في المكان الذي صلت فيه صلاة الفجر تذكر الله تعالى، فعن جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها-    أن النبي   -صلى الله عليه وسلم  -خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها-يعني: في المكان الذي تصلي فيه من البيت-، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: ©ما زلتِ على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم، قال النبي  -صلى الله عليه وسلم-  : ©لقد قلتُ بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وُزنتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتْهُن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته® [رواه مسلم].

وكان   -صلى الله عليه وسلم-  عند دخوله المنزل يبدأ بالسواك، كما كان يفعل ذلك أيضًا أولَ ما يقوم من نومه لقيام الليل، فعن شريح بن هانئ قال: (قلتُ لعائشة  -رضي الله عنها-    : بأي شيء كان يبدأ النبي  -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل بيته؟ قالت: “بالسواك “[رواه مسلم. ].

فإذا رجع عليه الصلاة والسلام إلى البيت طلب طعام الإفطار، فإن وجد عندهم طعامًا أكل وإلا عقد الصيام، وهذا يدل على قلة ما كان لديه من الدنيا، ويدل أيضًا على حسن عشرته لأهله عليه الصلاة والسلام، فعن عائشة أم المؤمنين   -رضي الله عنها-   قالت: دخل عليّ النبي -صلى الله عليه وسلم-  ذات يوم فقال: ©هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، قال: ©فإني إذن صائم®، ثم أتانا يومًا آخر فقلنا: “يا رسول الله، أُهدي لنا حيس-أي طعام”. [و الحيس: تمر ولبن جامد وسمن تخلط وتعجن وتسوى كالثريد. المعجم الوسيط (1/ 211 ]. فقال: ©أرينيه، فلقد أصبحت صائمًا®، فأكل[ متفق عليه].

ويخبر أزواج النبي   -صلى الله عليه وسلم-  عن هديه في الصيام، فيذكرن أن بيته كان معموراً بالصيام؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام يُكثر من الصيام، وربما تحرى أيامًا خاصة من أيام الأسبوع، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ©كان رسول الله   -صلى الله عليه وسلم-  يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله   -صلى الله عليه وسلم-  استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صيامًا منه في شعبان ® [متفق عليه].

وكان من هدي رسول الله   -صلى الله عليه وسلم-  أنه كان يجعل المسجد لصلاة الفريضة، ويجعل البيت لصلاة النافلة القبلية والبعدية للصلوات الخمس فينطلق إلى المسجد بعد صلاة، ويرجع إلى البيت إلى صلاة، كما كان أيضًا يصلي في البيت النوافل الأخرى كصلاة الضحى وصلاة الليل. نعم فأجرها في البيت مضاعف؛ قال   -صلى الله عليه وسلم-   ©صلاة الرجل تطوعا حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسا و عشرين® [( صحيح ) انظر حديث رقم: 3821 في صحيح الجامع].

وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-   : ©أن رسول الله   -صلى الله عليه وسلم-  كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين® [رواه البخاري].

وعن عائشة –رضي الله عنها-   – قالت:  ©لما بدن رسول الله – -صلى الله عليه وسلم- -وثقل كان أكثر صلاته جالسًا ® [رواه مسلم].

وكان يذهب رسول الله   -صلى الله عليه وسلم- إذا تعالى الضحى إلى بيت زوجه التي هو عندها وفي يومها، ، وكان يذهب ضحى كل سبت راكبا وماشيا إلى قُباء فيُصلِّي في المسجد، وكان ينام القيلولة إلى قريب صلاة الظهر. فإذا زالت الشمس أذّن بلال للظهر فيستيقظ الرسول إن كان لا يزال نائما فيصلي أربع ركعات الراتبة في بيته، ثم ينتظر الصلاة، وربما كان عنده بعض بنيه كالحسن والحسين أو أُمامة بنت ابنته فيلاعبهم حتى يؤذنه بلال بالصلاة، ، فيخرج للصلاة، وربما فجئهم منظره خارج إليهم حاملا الحسن أو الحسين أو حاملا أمامة وربما وضع الصبي وصلى وهو بجانبه وربما صلى والطفلة على عاتقه إذا ركع وضعها وإذا قام رفعها، وكان يصلي الظهر في أوَّل وقتها، وكان يُطيل في الأولى ويُقصّر في الثانية، وكان يسر القراءة فيها، ثم يعود – -صلى الله عليه وسلم- -لبيته فيصلي راتبة الظهر البعدية، ثم يخرج إلى أصحابه وربما جلس لهم إلى العصر، وربما ذهب في هذا الوقت لقضاء بعض حاجات المسلمين،

وكان إذا أُذِّن للعصر انتظر حتى يجتمع الناس لها، فإذا اجتمعوا خرج فصلى العصر، وكان يُصلّيها في أوَّل وقتها، فإذا فرغ من صلاته أقبل على أصحابه، فإن كان ثَمّ حديثٌ يريد أن يحدثهم به حدّثهم فإذا انصرف من صلاة العصر دخل على نساءه فيطوف عليهن جميعا حتى ينتهي إلى التي هو يومها فيبيت عندها، وربما اجتمعن في البيت التي هو عندها، وكان يقضي فترة بعد العصر غالبا في بيته ومع نساءه، . . . . . فإذا أُذِّن للمغرب لم يلبث رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-إلا قليلا ثم يخرج إلى الصلاة، فإذا خرج أُقيمت الصلاة فصلى المغرب وكان يصليها في أول وقتها، ولم يكن يتحدّث بعدها كما يتحدث في أعقاب الصلوات وذلك لحاجة الناس لإنصرافهم لعشائهم وراحتهم، فإذا عاد إلى بيته صلى ركعتين الراتبة البعدية، ثم تعشّى وهذا هو وقت العشاء غالبا وربما قدّموه قبل صلاة المغرب إذا كانوا صياما، وكان يأمر أصحابه أن يأخذوا معهم إلى عشائهم فقراء المسلمين، وربما أخذ  -صلى الله عليه وسلم- عشرةً فذهب بهم إلى بيته ليتعشى معهم إذا كان عنده وفرة طعام، ويبقى رسول الله في بيته إلى أذان العشاء، ولم يكن يعجّل العشاء، وإنما ينتظر فإن رآهم اجتمعوا عجّل وإن رآهم تأخّروا أخّر، وكان يحب تأخيرها لولا المشقة على الناس، فإذا قضى صلاة العشاء تحدّث إلى أصحابه إن كان ثمّة عارض يريد أن يحدثهم به، وكان حديثه بعد العشاء نادرا وقصيرا لتعب الناس وحاجتهم للنوم، ولهذا كان يكره الحديث بعدها، وكان إذا سلّم مكث في مكانه حتى ينصرف النساء، فإذا قام رسول الله قام الرجال. . . . .

وبعد صلاة العشاء يرجع  -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته فيصلي ركعتين راتبة العشاء، ثم يجلس سويعةً يتحدّث مع أهله قبل أن ينام، وربما ذهب يسمر عند بعض أصحابه، ،  وكان إذا أراد أن ينام يضع عند رأسه السواك ليستاك به إذا استيقظ، وكان إذا أوى إلى فراشه يأتي بالأذكار، وكان يضطجع على شقّه الأيمن ويضع يده اليمنى تحت خدّه الأيمن قائلا: ©بسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين®، وكان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه، وقرأ بالمعوذات ومسح بهما جسده® [رواه البخاري].

فينام، فإذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله  -صلى الله عليه وسلم- ، قائلا: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره، ثُمَّ جلس يمسح النوم عن وجهه بيده ويستاك، ويرفع بصره إلى السماء ويقرأ آخر عشر آيات من سورة آل عمران في هدوء هذا الليل وسكونه، ثم يصلي قيام الليل.

وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل ولا آية عذاب إلا استعاذ ولا آية تسبيح إلا سَبَّح، ولا يزال النبي -صلى الله عليه وسلم– يقطع آناء الليل بين قراءة خاشعة ومسألة ضارعة وتسبيح قدسي إلى أن يبقى سدس الليل الآخر، فإذا أتمّ قيامه فأراد أن يوتر أيقظ زوجته لتوتر، وكان إذا فرغ من وتره يقول: ©سبحان الملك القدوس® ثلاثا يطيل الثالثة ويمد بها صوته.

وعن عبيد بن عمير قال: قلت لعائشة  -رضي الله عنها-    : أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله –  صلى الله عليه وسلم-  قال: فسكتت ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: © يا عائشة، ذريني أتعبد الليلة لربي® قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما سرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، لمَ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: © أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها (  إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ  ) [البقرة: 164] الآية كلها[ رواه ابن حبان، وهو صحيح]. .

وعن عائشة -رضي الله عنها-   قالت: فقدتُ رسول الله   -صلى الله عليه وسلم- ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه – وهما منصوبتان وهو يصلي ساجدا ويقول: ©اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك®[رواه مسلم ].

عباد الله المتأمل في اليوم النبوي يجده يتميز بأمور منها

  1. الصلاة منتشرة في مساحة يومه.
  2. عنايته -صلى الله عليه وسلم- بالإستغفار.
  3. لهجه بالذكر صبحا ومساء.
  4. التوازن في أداء الحقوق والتوازن في استيعاب الحياة.
  5. حياته مزدحمة وحافلة ولكنها ليست متوترة ولا مربكة، وهي مرتبة وليست رتيبة.
  6. تجد في حياته عفوية الحياة وبساطتها.
  7. الأنس والبهجة حاضرة في بيته وفي مجلسه.
  8. قوة العلاقة العاطفية الزوجية.
  9. تفهمه لفطر الناس ومشاغلهم.
  10. فترات النشاط في يوم: في قيام الليل والصباح والظهر.
  11. حضوره العميق في حياة أصحابه وتفاعله معهم.

أسأل الله أن يحشرنا في زمرة النبي المصطفى، وأن يرزقنا شفاعته وجواره في عليين .آمين

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم