الأربعاء 24 أبريل 2024 / 15-شوال-1445

رمضان والشراهة الاستهلاكية



 

د. زيد بن محمد الرماني

الصوم مدرسة روحية عظيمة القدر، وفي الصوم تتجلى المشاركة التامة بين الغني والفقير، وفي الصوم فرصة لتربية ملكة الأمانة في شعور الصائم، وفريضة الصيام تربِّي في نفسية الصائم مَلَكَة النظام.

وبعبارة مختصرة: الصوم هو أحد دعائم الإسلام وأركانه الخمسة؛ جاء في الحديث القدسي “الصوم لي وأنا أجزي به”.

ومن جهة أخرى فإن من معاني الصوم أنه إمساك عن شهوة البطن، وبالمعنى الاقتصادي تخفيض الإنفاق أو ترشيده بمعنى أدق.

بَيدَ أننا نرى في حياتنا المعاصرة علاقة طردية بين شهر الصوم، والاستهلاك الشره، والمرء يدهش من هذا النهم الاستهلاكي الذي يستشري لدى الناس عامة في هذا الشهر دون مبرر منطقي.

فالجميع يركض نحو دائرة الاستهلاك المفرط، والاستعداد للاستهلاك في رمضان يبدأ مبكرًا مصحوبًا بآلة رهيبة من الدعاية والإعلانات، والمهرجانات التسويقية التي تحاصر الأسرة في كل مكان وزمان، ومن خلال أكثر من وسيلة.

فالزوجة تضغط باتجاه شراء المزيد والأولاد يلحون في مطالبهم الاستهلاكية، والمرء نفسه لديه حالة شراهة لشراء أي شيء قابل للاستهلاك، وبكميات أكثر من اللازم.

ومن الأسف أنِ اعتاد بعض الناس على بعض العادات السيئة الدخيلة علي شهر رمضان، والتي تتمثل في طريقة الإنفاق الاستهلاكي وهي ليست من الإسلام.

فعندما يأتي شهر رمضان نرى أن أغلبية من المسلمين يرصدون ميزانية في الأشهر العادية، وتبدأ مضاعفة استهلاكها، ويكون النهار صومًا وكسلاً، والليل طعامًا واستهلاكًا غير عادي.

ونَسِيَ هؤلاء أو تناسوا أن اختصار وجبات الطعام اليومية من ثلاث وجبات إلى وجبتين اثنتين فرصة طيبة لخفض مستوى الاستهلاك، وهي فرصة مواتية لاقتصاداتنا، خصوصًا ونحن أمة مستهلكة، أشارت كلُّ الإحصاءات إلى أن أقطارنا كافة تستهلك أكثر من إنتاجها، وتستورد أكثر من تصديرها، وما هذا الاستهلاك الزائد دائمًا والاستيراد الزائد غالبًا إلا عاملان اقتصاديان خطيران تشقى بويلاتهما الموازنات العامة وموازين المدفوعات.

وغير خافٍ أن الانفاق البذخي في رمضان أمرٌ لا يمكن أن يتسق مع وضعية مجتمعاتنا الإسلامية التي في أغلبها مجتمعات نامية تتطلب المحافظة على كل جُهْدٍ، وكل إمكانية من الهدر، وما نصنعه في رمضان هو بكل تأكيد هدر لإمكانات مادية، وهدر لقِيَمٍ سامية، وهدر لسلوك منزلة القناعة.

ومن المعلوم أن الاستهلاك المتزايد باستمرار معناه المزيد من الاعتماد على الخارج، ذلك لأننا لم نصل بَعدُ إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي أو مستوى معقول لتوفير الاحتياجات الاستهلاكية اعتمادًا على مواردنا وجهودنا الذاتية، وهذا له بَعدٌ أخطر يتمثل في وجود حالة تبعية غذائية للآخر الذي يمتلك هذه الموارد ويستطيع أن يتحكم في نوعيتها وجودتها ووقت إرسالها إلينا.

ومن ثَمَّ كان للاستهلاك أبعاد خطيرة كثيرة تهدد حياتنا الاقتصادية، وتهدد أيضًا أمْننا الوطني، فهل يكون شهر رمضان فرصة ومجالاً لامتلاك إرادة التصدي لحالة الاستهلاك الشرهة التي تنتابنا في هذا الشهر الكريم؟!

إن صفة استهلاك المسلم هي الكفاية لا التبذير، وإن منفعته وإشباعه يتحقق ليس فقط بالإشباع المادي، بل من خلال الإشباع الروحي بأداء الواجب نحو المسلمين من مال الله الذي رزقه إياه، وإن منفعته تتحقق حتى في قيامه بواجبه نحو المسلمين، وقبل ذلك أهله وزوجته وولده.

ولذا يسعى المسلم إلى مرضاة الله – تعالى – فيشكر الله على نعمه، ويَحْمده كلما وفقه إلى استهلاك شيء من رزق ربِّه، والمسلم ينفق ماله ليحقق منفعة بسد حاجته، وبلوغ متعته والكفاية عن الحرام، وتحقيق مرضاة الله، ونيل ثوابه – عز وجل.

إن شهر الصيام فرصة دورية للتعرُّف على قائمة النفقات الواجبة بالمفهوم الاقتصادي، وعلى قائمة الاستبعاد النفقي، ثم فرصة لترتيب سُلَّم الأولويَّات، ثم فرصة كذلك للتعرُّف على مستوى الفائض الممكن.

ثم إن شهر رمضان فرصة لتحقيق ترشيد أفضل، ولتوسيع وعاء الفائض الممكن، ولكن شريطة أن يرتبط بالقاعدة القرآنية الإرشادية المعروفة: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ [الأعراف: 31]، هذه القاعدة، ولا شك هي ميدان الترشيد على المستوى الفردي والمستوى العام.

لقد أكد الباحثون على حقيقة مهمة تنصُّ على أن فوضى الاستهلاك تبرز بوضوح حينما تبدأ الزوجة بعرض نفقاتها لتكون نفقات من السلع والمواد الغذائية التي تبتلع فعلاً الدخل الشهري حتى آخر قرش فيه.

وتنتقل عدوى التبذير إلى الأطفال فينمو معهم انعدام الحس بقيمة الأشياء، فلا يحافظون بالتالي على ألعابهم أو كُتبهم، وفي ظل ذلك لا يعود التبذير والترف مسألة فردية، بل مظهرًا اجتماعيًّا، ولا يعود قضية وقتية حالية، بل مسألة تمتد إلى المستقبل، ولا يعود التبذير والترف مقتصرًا على الأسرة، بل والوطن كذلك.

الشائع بيننا أن المرأة أكثر إسرافًا من الرجل؛ سواء في ملبسها أم إنفاقها، لكن هناك من الرجال من هم أكثر إسرافًا في أموالهم وسلوكهم ومقتنياتهم، فالأمر نسبي ويربط بحجم ما يتوفر لدى الفرد من مغريات نحو الإسراف، ويبقى السؤال المهم: أيهما أكثر إسرافًا الرجل أم المرأة أم الاثنان معًا؟!

والحقيقة أن كلاًّ من الرجل والمرأة مسؤول، وإن كان الإسراف والتبذير أكثر في المجتمع النسوي نسبيًّا.

ومن ثَمًّ فإن الزوجة التي تعد وتطبخ، والزوج الذي يجلب وينفق كلاهما متهم في الشراهة الاستهلاكية التي تنتاب مجتمعنا في رمضان وغير رمضان.

وبلغة الإحصاءات والأرقام؛ فإنه في أحد الأعوام قُدِّر نصيب شهر رمضان من جملة الاستهلاك السنوي في إحدى الدول العربية بما نسبته 20%؛ أي إن هذه الدولة تستهلك في شهر واحد وهو شهر رمضان، خُمس استهلاكها السنوي كله، بينما تستهلك في الأشهر المتبقية الأربعة أخماس الباقية، وقد كلف رمضان في ذلك العام الخزانة حوالي 720 مليون دولار.

وتشير بعض الدراسات التي أجريت حديثًا أن ما يُلقى ويُتلف من مواد غذائية، ويوضع في صناديق القمامة كبير إلى الحد الذي قد تبلغ نسبته في بعض الحالات 45% من حجم القمامة.

كما عملت دراسة مَيدانية عن الإسراف والتبذير في المأكولات المرمية في مدينة واحدة في إحدى الدول، فكانت النتيجة أن الإسراف اليومي نحو مليون ليرة والإسراف السنوي 365 مليون ليرة.

لذا يمكن القول بصفة عامة: إن الإسراف في هذا الشهر «رمضان» وفي غيره، سمة من سمات منطقتنا العربية.

بل وللأسف؛ فقد امتدت ظاهرة العولمة إلى جوانب عبادية واجتماعية واقتصادية، أخطرها الجوانب الإيمانية.

فشهر رمضان يجري تحويله عامًا بعد عام إلى مناسبة للترويج الكثيف والحاد لمختلف السلع، وتسهم في ذلك بقوة مختلف وسائل الإعلام وفنون الدعاية، ووكالات الإعلانات.

وهكذا يتزايد إخضاع المشاعر الدينية لاستغلال كوسيلة من وسائل توسيع السوق، بل وأحيانًا لترويج أكثر السلع بُعدًا عن الدين.

وعليه فإننا نؤكد على أن مفتاح حل الأزمات الحقيقي، إنما يكمن في التربية الاستهلاكية.

إن رمضان هو محاولة لصياغة نمط استهلاكي رشيد، وعملية تدريب مكثف تستغرق شهرًا واحدًا تفهم الإنسان أن بإمكانه أن يعيش بإلغاء الاستهلاك، استهلاك بعض المفردات في حياته اليومية ولساعات طويلة كل يوم.

إنه محاولة تربوية لكسر النهم الاستهلاكي الذي أجمع العلماء الاجتماعيون والنفسيون أنه حالة مرضية.

ختامًا فإن أهم المعالجات التي يمكن من خلالها التصدي للشراهة الاستهلاكية أو التخفيف من حدتها:

أولاً: ينبغي التخلص من القيم الاستهلاكية السيئة الضارة؛ حتى لا يتسبب الاستهلاك الترفي في وجود الفقر وسط الرخاء؛ إذ باستمراره قد تضيع موارد الأسرة.

ثانيًا: حبذا تقدير الكميات المطلوبة والجودة والنوعية والفترة الزمنية لاستهلاك السلع والمنتجات.

ثالثًا: لا بد من كبح انفعالاتنا العاطفية المتعلقة بالكميات المطلوب شراؤها واستهلاكها على مستوى الأطفال والنساء والأُسَر.

رابعًا: الحذر من تقليد المجتمعات المترفة ذات النمط الاستهلاكي الشره المترف المتلاف.

ذات يوم أوقف عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ابنه عبدالله – رضي الله عنه – وسأله: إلى أين أنت ذاهب؟

فقال عبدالله: للسوق وبرر ذلك بقوله: لاشتري لحمًا اشتهيه، فقال له الفاروق: أكلَّما اشتهيت شيئًا اشتريته!

إنها حكمة اقتصادية خالدة، وقاعدة استهلاكية رشيدة، خصوصًا ونحن نشهد في أيامنا هذه سباقًا محمومًا يترافق معه أساليب تسويقية جديدة وأساليب إعلانية مثيرة، ووسائل إعلامية جذابة.

وأقول لأختي المرأة المسلمة:

ينبغي عليك عندما تشعرين بأن حافز الإنفاق يدفعك إلى مزيد من الإسراف والتبذير، والتسوق والشراء والشراهة الاستهلاكية اتباع الخطوات التالية:

1- تمهلي قليلاً قبل أن تخرجي نقودك، واسألي نفسك إن كان هذا الشعور حقيقيًّا أم انفعاليًّا.

2- احرصي على ألا تشتري محبة الآخرين بالهدايا أو تقليدهم ومحاكاتهم بالإنفاق المفرط.

3- اسألي نفسك قبل الشراء إذا كان بالإمكان شراء ما هو أفضل من هذا الشيء إذا أُتيحت فرصة عرض سعري أفضل.

وختام القول:

فإننا لو جمعنا كل ما ينفق على الأمور التافهة في صندوق موحد، ثم اُنْفِق هذا على إزالة أسباب المأساة من حياة الناس، لصلحت الأرض وطاب العيش فيها.

 

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم