الأحد 19 مايو 2024 / 11-ذو القعدة-1445

تعليق الدراسة



رفع الضرر عن المواطن حق مكتسب، وعندما يعصف الغبار بمدننا الوادعة، تحل المصيبة على المصابين بالربو، والأمراض التنفسية وأمراض العيون على وجه الخصوص. ومن هنا يترقب الناس صدور قرار تعليق الدراسة؛ حرصا على سلامة أبنائنا وبناتنا من كل ما قد يصيبهم جراء هذه الأجواء العكرة.
ولكن ما يحدث على صفحات التواصل الاجتماعي من لغط وتطارح تختلط فيه أصوات الطلاب وأولياء أمورهم بأصوات المعلمين، متفقة على المطالبة بتعليق الدراسة، يمكن قراءته من ثلاثة جوانب:

الأول: المحمل الإيجابي، وهو أن هذه المطالبات مشروعة، هدفها المحافظة على الصحة العامة، وبخاصة الأطفال الذين لا يتقون الغبار بالقدر الكافي، ومن ثم فهم معرضون لآثاره الصحية الخطرة أكثر من غيرهم.

الثاني: المحمل الواعي؛ وهو أن الوضع القائم في كثير من المدارس؛ من حيث مدى الاستعداد لاستقبال الطلاب على مقاعد نظيفة، وفي فصول مكيفة، بل وفي مدارس مغلقة، لا يتوافر في كل المدارس، ولذلك فإن حضور الطلاب ومثلهم المعلمون والإداريون يعرضهم للمخاطر.

والسؤال الذي يولد في البيئات الجامعية في كل مرة يعلق التعليم العام الدراسة، ما الفرق بين طالب الثانوية وطالب الجامعة؟ وإذا كان المبنى الجامعي مساويا لأقل المدارس من ناحية البناء والإمكانات، فلماذا لا تعلق الدراسة في الجامعة، وخاصة أن الأمر أخطر من ناحية أخرى، وهي أن طلاب الجامعة يأتون من المدن والقرى، ولا توجد جامعة ليست كذلك. ومن المعروف أن الحوادث القاتلة تحصل في فترات ثوران الغبار أكثر من غيرها، حيث تنعدم الرؤية في الخطوط السريعة، والطلاب الجامعيون شباب، ومن العسير ضبطهم جميعا، وهم الذين يسجلون أكثر الضحايا في كل عام، للأسف الشديد. ومن يضبط نفسه فلن يكون في مأمن كامل من اعتداء الآخرين عليه في نهار كالليل الدامس.

وإذا سلمنا بهذا، فما الفرق بين الموظفين/ المعلمين، والموظفين/ غير المعلمين، فلماذا لا يعلق العمل في الدوائر والشركات.. حتى لا يتعرض الموظفون والعمال للحوادث والأمراض؟!!
لا أجد فرقا بين الإنسان الطالب، والإنسان الموظف، والإنسان العامل، كلهم بشر يجب الحفاظ على صحتهم وسلامتهم.. ولكني أجد الحرج الشديد في توقف الإنتاج والعمل في يوم أو أكثر!!

الثالث: المحمل السلبي؛ الذي يشير إلى الرغبة في التفلُّت من الدراسة، والتخفف من مسؤولية العمل، والهروب إلى الدعة، وهو ما يجعل المستقبل مهددا بطريقة مباشرة، بل خطرة للغاية، فهناك فرق بين الدواعي التي ذكرتها سابقا، القابلة للأخذ والرد، والتي لا تخلو من مشكلات في تطبيقها، ويكون تعليق الدراسة فيها علاجا ليس منه بد لمشكلة حدثت، وبين أن (يتمنى) الطالب والمعلم تعليق الدراسة؛ ولو كان السبب غبارا، (ويكفي المنايا أن يكن أمانيا) كما قال المتنبي.
لقد كنت أسمع عن حرص الطالب في بعض البلاد المتقدمة على الدراسة، بحيث يهدده والده بالحرمان من الذهاب إليها لتأديبه وتعديل سلوكه؛ لما يجده فيها من تعامل رفيع، وإمكانات ضخمة، جمال في المكان يصل إلى أن يكون جُنينة مبهرة، وفي الترفيه؛ وكأنها مدينة ألعاب، وفي أدوات التعلم، التي تجعل من التعليم رحلة سياحية، وتجربة جذابة، وفي العلاقات التعليمية، التي تجعل من الأستاذ صديقا للطالب، قريبا منه، يشجعه، ويأخذ بيده.
الخطورة ليست في التعليق ذاته، فهو إجراء احترازي علاجي، ولكن الخطورة في تحول (التعليق) إلى (أمنية) ناتج عن إجابات سلبية لأسئلة مهمة: ما معنى (التعلم) عند الطالب والمعلم، وما أهداف التعلم عند كل منهما؟ وماذا تعني لكل منهما البيئة التعليمية؟

إذا أجيبت هذه الأسئلة بإيجابية، فلن تتمنى (التعليق) نفس ترى التعلم هو الحياة ذاتها، وترى الهدف منه هو بناء المستقبل كله، وتدخل المدرسة أو الجامعة وكأنها تدخل حديقة راقية، وإن لم تكن كذلك، إذا كانت مؤمنة بجدارة العلم وأهليته بوقتها الذي يمثل حياتها.
وإذا كان أديسون يقضي أربع عشرة ساعة في مصنعه، ثم يجيب من يتعجب من هذا الزمن الطويل في العمل كيف يطيقه فيقول: إنما كنت ألهو، فلقد قرأت من صبر علمائنا في السابق واللاحق ما يفوق ذلك، فأين طلاب اليوم من هذه القامات العملاقة؟

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم