الجمعة 17 مايو 2024 / 09-ذو القعدة-1445

المواطنة الحقة



  بقلم د.إبراهيم التنم

 

إن حبَ الأوطانِ متأصلٌ في فطرةِ الإنسانِ , فيه الماضي والذكرياتُ , فيه المستقبلُ والأمنياتُ .


وقد جاءَ في كتابِ اللهِ تعالى أن الخروجَ من الأوطانِ يعادلُ قتلَ النفسِ في البلاءِ، قال جل وعلا: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ).


لذلك مدحَ اللهُ عزَ وجلَ المهاجرينَ بتضحيتِهم وخروجِهم من ديارِهم في سبيلِ اللهِ (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).


وأما الشعراءُ فكانَ لهم نصيبٌ من حب الوطنِ .. يقول أبو تمام:


   نَقِّلْ فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِن الهَوى  —  ما الحُبُّ إلاّ للحَبيبِ الأوَّلِ


   كَمْ مَنزِلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفَتى  —  وحَنينُهُ أبداً لأوَّلِ مَنزِلِ


بل يحبونَ أوطانَهم ولو لم يكن فيها شيءٌ جميلٌ:


   بلادٌ ألفناها على كلِ حالةٍ   ***   وقد يُؤْلَفُ الشيءُ الذي ليسَ بالحَسنْ


   وتُسْتعذبُ الأرضُ التي لا هواءَ بها   ***  ولا ماؤها عذبٌ، ولكنها وَطَنْ

 


إن المواطنة الحقة عقيدة فكرية وتربية نفسية نزرعها في نفوس أولادنا، وجوهر المواطنة: عقيدة صحيحة، وبيعة في العنق، وأداء للحق، وولاء وطاعة.. وعدمُ خروجٍ على الجماعة.. نعم ثمة فروع ربما تختلف فيها أنظار العلماء، وربما يكون بعضها دخيلاً على الوطنية، ولا يدل عليها، وإنَّ من الخطر أن تختطفَ الوطنيةُ، وتُبْتدعَ لها المعايير الشكليّة، ثمَّ يفتنُ الناس بها ويمتحنون بناء عليها، فتُربط الوطنية بتعليق الصور أو تحية العلم الوطني أو الاحتفال بيوم الوطن، أو منح الإجازات للموظفين، وتجعل هذه الأمور هي محكاتُ المواطنة الصحيحة، فمن قام بها فهو المواطن المخلص، ومن تحرّج منها فوطنيّتُه مشكوكٌ فيها، وولاؤه فيه نظر، ولو كان أميناً مخلصاً مطيعاً بالمعروف.


إن من التناقض العجيب اتخاذ بعض العلمانيين والليبراليين والتغريبيين دعوى المواطنة وحب الوطن مركباً لتسويغ أفكارهم، ومحاصرة وإرهاب كل من يخالفهم، ورميه بالإرهاب والتمرد على الوطن، وينسى هذا المتعسف صاحب الإرهاب الفكري أنه هو أول من ينقض دعواه بأطروحاته التي لا تخدم المصلحة الوطنية، ولا تتفق والأسس التي قامت عليها البلاد، واجتمع عليها شمل الوطن.


ومن التناقضات في المواطنة أن يَخُونَ المسئولون في الأمانات، ويظلموا الآخرين، ويستخفوا بالمسؤولية، أو يوظِّفَوها لمصالحهم الشخصية؟! ولو علَّقوا صورة ولي الأمر فوق رؤوسهم وزينوا بـها مكاتبهم، وجعلوا النشيد الوطني وِردَهم اليومي.

 


إن حبَّ الوطن إنما هو في القيام بمسؤولياته وحفظ أماناته وأدائها إلى أهلها، وليس بسرقة الوطن والمواطنين.


إن حب الوطن يكون بالدفاع عنه وعن دينه ومقدساته ومواطنيه وليس بأذيتهم.


إن حب الوطن يكون بحفظ نظامه، وإصلاح أهله وليس بإفسادهم.


إن حبَّ الوطن باحترام الكبير والعطف على الصغير، واحترام الجار واحترام النظام ونظافة الشارع وعدم مضايقة المسلمين.


إنَّ حبَّ الوطن بالحرص على كل ممتلكاته والتعامل بأخلاق المسلم مع المسلم في كل مكان.


إنَّ حبَّ الوطن ليس يوماً في السنة فقط!! أو صورةً أو علماً بل حب الوطن في كل يوم وفي كل حين.


إن العقيدة الإسلامية هي أساس مواطنة المسلمين، ولذلك فحدود الوطن – التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره – لا تقتصر على حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء، بل إن الوطن يشمل القطر الخاص أولاً، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى، ومن ثم يوائم الإسلام بين شعور المواطنة الخاصة وشعور المواطنة العامة؛ لأن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص فيها: أن يعمل كل إنسان الخير لبلده، وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم أكثر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها، وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب، رحماً وجواراً، حتى إنه لم يُجز أن تُنقل الزكوات أبعد من مسافة القصر – إلا لضرورة – إيثاراً للأقربين بالمعروف، فكل مسلم عليه أن يسد الثغرة التي هو عليها، وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه، ومن هنا كان المسلم أعمق الناس مواطنة، وأعظمهم نفعاً لمواطنيه؛ لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين، وأشد الناس حرصاً على خير وطنه، وتفانياً في خدمة قومه، وهو ينتمي لهذه البلاد العزيزة المباركة، بلاد العزة والمجد والتقدم والرقي.

 


إن الحديثَ عن الوطنِ وحبه والحنين إليه يذكر المؤمن بالله تبارك وتعالى بالوطن الأول لبني آدم وهو الجنة، فذلك هو موطننا الأصلي الذي غفل عنه معظم الناس، قال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: ( المؤمن في الدنيا مهمومٌ حزينٌ همه التزود بما ينفعه عند العود، ….. فالمؤمن أبداً يحن إلى وطنِه الأول) .


قال ابن القيم رحمه الله في قصيدته الميمية :


فحي على جنات عدن فإنها


منازلك الأولى وفيها المخيم


ولكننا سبي العدو فهل ترى


نعود إلى أوطاننا ونسلم

 


فأعظم حنين ينبغي أن يكون إلى وطننا الأول سكنِ الأبوين، ودار الخلد والنعيم.


قال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: (( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة)).

 


احذر يا رعاك الله من الاحتفال أو التراقص, وعلى أكتافك راية لا إله إلا الله, فإن الصحب الكرام رضي الله عنهم, قطعت أيديهم وأدميت أجسادهم لأجل رفعها وأنت تتراقص بها.

 


علموا أولادكم كيف يكون حب الوطن, وكيف يعبرون عن فرحتهم به؟ بالدفاع عنه وتنميته والاعتراف بفضله وعطائه, وأن الموت في سبيل ذلك شهامة وشهادة.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم