الأحد 19 مايو 2024 / 11-ذو القعدة-1445

العلماء يصنعون



لا نعيش أزمة (عدد)، فقد أصبحنا أكثر الناس عددا في الأرض، ولكن مشكلتنا مشكلة (جودة) و(إبداع)، فهل آن الأوان لانصراف اهتمامنا إلى الكيف عوضا عن الافتتان بالكم، ونحن نربي الجيل القادم في بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا؟
إن من القواعد المقررة أن عظماء الرجال يرثون عناصر عظمتهم من أمهاتهم ومن آبائهم ومن معلميهم، بتوفيق من الله تعالى ورعاية.

والواقع أن كثيرا من طاقات الأمة قتلت في مهدها بأيدي من يجهل حقيقة الإبداع والعظمة المخبوءتين في نفوس أطفالهم، بل إن رؤية الوالدين للحياة تتحكم كثيرا في مستقبل الطفل بعد تقدير الله تعالى، وقد قرأت سير عشرات العلماء من أمم شتى في الأرض، فوجدت عظمتهم زرعت في طفولتهم، فتجد مثل أمِّ الأمام مالك رحمه الله، وأمِّ العالم الشهير (توماس أديسون)، عرفَتْ كل منهما أن ابنها مشروع علمي، وماعون مستوعب، وذكاء نادر، فجعلته همها الأهم، فأحسنت تربيته، ووفقت في تنشأته، وأعطته الثقة بأنه أعظم إنسان في الحياة، وأنه واعد بكل فضل وعلم، وسخرت له الإمكانات المتاحة، فإذا بهما يحظيان بعالمين من أعظم علماء الزمان علما وإنتاجا وابتكارا.

لن يفيدني ـ بوصفي أبا ـ أن أشتاق أن يكون ابني عالما كبيرا، أو طبيبا حاذقا، أو مهندسا بارزا، أو داعية محبوبا، أو مخترعا مبدعا، بل لابد من وضع هدف سام، ومنهج علمي متدرج واضح، واهتبال الفرص العلمية والإبداعية ودفع الولد إليها وتشجيعه عليها، والبذل السخي للوصول إلى هدف التكوين العلمي، الذي يرتقي به إلى منزلة (العالم).

والمؤلم بأن بعض الآباء والأمهات يصنفان ابنهما بأنه دون ذلك، فليس من بادرة تدل على ذكائه وإبداعه، وإنما هو مشاغب متعب، ومزعج لعاب، لا يرتاح ولا يريح، فيظن أنه غبي قاصر، وربما كان عبقريا عظيما، ولكنه يقمعه ويُكرهه على الهدوء والاستكانة، وبين جنبيه طاقة خلاقة متوثبة، تحتاج إلى توجيه لا إلى كبت، إلى تبصير لا إلى تجهيل، إلى عناية وتشجيع، لا إلى تثبيط وتهوين من العزيمة الناشئة الطموح.
الوالد المبدع في التربية يقدر ابنه أو ابنته كثيرا وهو يرسم له لوحة المستقبل الجميل، بل يحلم بقدر الحب الذي يكنُّه له، وعليه أن يوسع حُلُمَه كثيرا؛ وكثيرا جدا فهو جدير بذلك وأكثر، ولربما تقر عينه به وقد أصبح من عداد المبدعين الذين يشار إليهم بالبنان.

لقد كان سلفنا العظيم يحثون أبناءهم على طلب العلم وهم في سن صغيرة، ويدفعونهم إلى حضور مجالس العلماء الكبار، ويقدرونهم إذا حضروا؛ حتى ربما سمَّوا الطفل (الشيخ الصغير)، والشاب اليافع (فتى الكهول)، فأين نحن اليوم من هؤلاء، وأين يقضي أطفالنا أوقاتهم، وكم نصيب الكتاب من حياتهم، وكم نصيب ألعاب الفيديو والشاشات والأجهزة الذكية من حياتهم؟!! أسئلة يمكن تغيير إجاباتها عن الواقع غير المرضي الذي يعيشه أكثرنا، لو أننا غيرنا منحى تفكيرنا في أساليب التربية القمعية، أو حتى الباردة.
إن ميول الإنسان ومعالم شخصيته ربما تتضح في وقت مبكر من حياته، وهذه الميول تتنامى لتكوّن القالب الذي يميّز الفرد عن غيره، والبيت هو البيئة التي تصنع هذه العجينة المباركة لتكون قمة من قمم الأرض، ونجما يهتدى به في السماء بإذن الله تعالى.

من عصرنا الحاضر الشيخ عبد العزيز بن باز، حيث نشأ سماحته في بيئة عطرة بأنفاس العلم والهدى والصلاح، فحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب قبل أن يبدأ مرحلة البلوغ، ثم طلب العلم على يد علماء نجد، وكان لوالدته – رحمها الله – أثر بالغ، في اتجاهه للعلم الشرعي وطلبه والمثابرة عليه، وهكذا تقف الأم العظيمة التي ربما نجهل حتى اسمها وراء عظمة الكبار الذين يبنون التاريخ بلبنات عقولهم، ورحيق أرواحهم.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم