السبت 18 مايو 2024 / 10-ذو القعدة-1445

الأخطبوط



مع التقدم التقني وتوفره في أيدي كل الناس زادت فرص المشاركة الشعبية في تطارح الآراء في الشأن العام، كما زادت فرص الفوضوية في تناقل المعلومات، وتاهت معالم التخصصات، وصار كلٌّ يدلي برأيه في أية قضية كانت، حتى الإفتاء الشرعي، والوصفات الطبية، فضلا عن الأمور الأخرى.
وكان من أبرز ما أساءت به الأنامل الجامحة: هو تحريك الأحرف الإلكترونية باتجاه الإساءة إلى أمن البلاد، باستثارة النعرات، والتحريش بين أبناء البلد الواحدة، وتضخيم الأخطاء بطريقة مقصودة، على حد قول عبدالله بن معاوية: وعين الرضا عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساويا، لتحقيق مصالح شخصية، أو أيديولوجية.

كان من الممكن أن يستثمر الناس هذه التقانة في الابتكارية اللغوية أو الإبداع الإلكتروني أو الإبهار الفني في أطر من الفضيلة، وبحبوحة من الحرية الواعية، ورقي في الجودة، ولكن الواقع يقول: إن شيئا محدودا من ذلك حدث، ولكن أكثر الناس ساروا في اتجاه آخر من الاستغلال السلبي لما طُوع في أيديهم من معطيات التشكيل الذوقي.
الحرية أساس للإبداع، ولكنها تلك الحرية المنضبطة، التي لا تُحوِّل الإنسان إلى كائن لا عقل له، تسيره الغرائز، وتُقزمه المصالح الشخصية.
نعم .. ربما حدَّت بعض الأطر النظامية من انطلاقة التعبير عن الآراء الشخصية في أمور خاصة وعامة، ولكنها كثيرا ما تهذبها، فالفرد لا يعيش وحده، وإنما هو جزء من كيان يعيش فيه آخرون، لهم الحق في حفظ ضروراتهم، وكرامتهم، ولكن العالم الافتراضي أطلقها كما تُطلق النمور فجأة من أقفاصها، فلم تعد تلوي على شيء! ولا تعرف أين تذهب، ولا من يكون فريستها، فقد تعود بالضرر حتى على نفسها؟!.
أصبح الحاسوب بعبعا مخيفا، مع زيادة حجم الجرائم الإلكترونية التي بلغت خسائرها في بلادنا: 1.9 مليار في سنة واحدة، كما تذكر بعض الإحصاءات، فلم يعد أحد محدودا بمقص رقيب، ولا بقوانين صحفية، ولا بذوق رئيس تحرير، ولا بتوجه مسؤول معين، بل أصبح بعضنا يظن بأنه في حارة (كل من أيدو ألو) كما يقول الشاميون، متجاهلا حقوق الآخرين.
ولعل (الشائعة) قد وجدت فرصة لتظهر على مسرح المجتمع سافرة بدون حياء، بعد أن تسهلت سبل تسريبها في أشكال مغرية من برامج التواصل المجتمعي، ولم أجد عذرا لمن يدفع بها إلى الآخرين وهو لم يتأكد من أمرين: صحتها، ومدى الفائدة من إشاعتها.
بل وجدتُ أن من يروج (الشائعة) أربعة: الأول: جاهل، لا يملك أدوات العلم التي يستطيع بها أن يمحص بها ما قرأ أو سمع؛ فهو قد يظن بترويجها خيرا، أو على الأقل لا يعرف أن في ذلك ضررا. والثاني: فارغ: كل همه أن يثبت وجوده الأجوف بأن يكون بطلا في نقل الأخبار الغريبة، ولذلك يحرص عليها جدا؛ ليبقى حاضرا في أذهان الآخرين. والثالث: مُغرض، يهدف إلى غرض واضح في نفسه، وهذا يمكن أن يصنع الشائعة، ويسعى في شيوعها بين الناس، أو ترويج ما يتناسب مع أهدافه. والرابع: عدو، يتعامل مع الشائعة على أنها قطعة سلاح ضد الآخرين.
أمن بلادنا ضرورة من أجلِّ الضرورات التي يجب أن نحافظ عليها، وقد نستهين بكلمة نمررها، أو وصمة نلصقها بفرد أو هيئة، أو بصورة نضحك منها، فتكون من أسوأ السوس الذي يحفر في جذور مستقبلنا، ويقرض عروق تقدمنا.
الكلمة أمانة عظيمة، ومسؤولية كبرى، {وقفوهم، إنهم مسؤولون}.

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم