الجمعة 19 أبريل 2024 / 10-شوال-1445

التعليم الذي نريد!



التعليم الذي نريد!

 

 

 

التّعلّم طلب العلم والمَعرفة .. والتعليم إيصالُ العِلم والمعرفة وبذلُهما للآخرين ..

والعِلم في الإسلام لا حَدَّ له ولا نهايةَ .. قال الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ..

بل جعل الله تعالى العلم من الأدلة الدالة على وحدانية الخالق سبحانه قال تعالى: عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ..

وطلب العلم سبب للرفعة في الدنيا والآخرة ..

وكلامنا هنا لن يكون عن فضل العلم وأهميته …

بل عن أمر مهم هو ثمرة العلم والغاية منه ..

فإن من أهمِّ آثار العلم .. التربية والتزكية للنفوس ..

بل هذا قاعِدةُ في بناءِ المجتمعات والدّوَل ..

إن الأمم ـ أحبتي ـ لا تتقدَّم بحشو المعلومات .. إنما تتقدَّم بتربية تعمل على غرس القيم وبناء المبادئ .. لتجعل منها واقعاً عملياً .. لا محفوظات تلوكها الأفواه ثم تفرّغ في قاعات الامتحان !! دون أن يكون لها رصيد من الواقع !! وأثر يُتحلَّى بها في السلوك ..

ما قيمة العلم إذا كان صاحبه كذوبا خؤونًا .. يتمرّغ في الرذيلة .. وينقض مبادئَ التربية عروةً عروة بسلوكه وأخلاقه ؟! ما قيمة التعليم إذا لم يظهر أثره على طالب العلم في أدبه مع العلم .. وفي أدبه مع أساتذته .. وفي أدبه مع إخوانه وكتبه؟! وقبل هذا كله في أدبه مع ربه ؟!!!

هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ..

إن المنهج يظلّ حبرًا على ورق ما لم يتحوّل إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره مبادئَ المنهج ومعانيَه .. ينشأ ناشئ الفتيان منا على الصدق إذا لم تقع عينه على غش !!

وتسمع أذنه كذباً !!

ويتعلم الفضيلة إذا لم تلوَّث بيئته بالرذيلة !!

ويتعلّم الرحمة إذا لم يُعامل بغلظة وقسوة !!

ويتربى على الأمانة إذا قطع المجتمع دابرَ الخيانة !!

هذا ابن عباس رضي الله عنهما شاهد أمامه من يقوم الليل فسارع لذلك ولحق برسول الله ..

ولهذا فلما خلى العلم في عصرنا من التربية صار التعليم ضررُه أكثر من نفعِه ..

فالتقدّم التقنيّ في الأطباق الفضائيّة مثلاً سُخِّر للعُريِ الماجن .. والمُجون الفاضح .. وقتلِ الحياء .. ووأدِ الفضيلة .. وتلويثِ العقول بالأفكار المنحرِفة ..

وكذا التقدّم العلميّ في الحضارةِ المادّية المعاصرة ولّدَ قوى عُظمى..

لكنّها قوى همجيّة، لا أخلاقَ تردَعُها .. ولا قيَم تهذِّبها .. قوَى سيطرةٍ واستبدادٍ وامتصاصِ ثرواتِ الضعفاء .. وسَحق الأبرياء ..

هذه الحضارة المادّيّة .. ولّد عِلمُها الذي لم يهذِّبه دينٌ .. ولم يقوِّمه خُلقٌ ..

جيوشًا جرّارة .. ترتكِب المذابح .. وتنحَر السلام .. وتغتصِب الفتيات ..

ونَشأت في أحضانِ هذا العِلم عصاباتُ الاتِّجار بأعضاءِ البشر باعتبارها قِطَع غيارٍ عالميّة !!

إنّه علمٌ يجعلُ المنتمين له سَكرى .. لا وازعَ لهم ولا حيَاء ..

الثّورةُ العلميّة المادّية .. لم توفِّر للناس طمأنينةَ القلب .. وسكينةَ النفس .. وهدوءَ الأعصاب .. والأمنَ الشّامِل .. والسلامَ العادل ..

فالعالم ينزِف من ويلاتِ القتل الجماعيّ .. والتدمير الإباديّ .. والتفجير الذي ينشُر الأشلاء .. العالَم يئنّ من موتِ الضمير وفقدانِ الأخلاق .. فالسّرقة والاختلاس والغشّ والرّشوة والترويجُ والخيانات وغيرها شاعَ أمرُها وفشَا ضررُها في العالَم، والسّبَب هو غِياب التربية مع التعليم ..

هذه مفاجأةُ ما يُسمَّى بالتّربية الحديثة .. لا تقيم وزنًا لدِينٍ أو خلُق .. تحرّكها المصلحةُ والمنفعة .. تشعَل حروبٌ وتدمَّر قرًى من أجل المصالح والمنافع .. إنّها قِوى لا تهتدِي بنور الله ..

ومن هنا نقول كم نحن بحاجة الى العلم المرتبط بالأخلاق والسلوك الحسن .. والزكاء والأدب ..

نقول هذا ونحن نطالع اليوم أخبراً لاتبشر بخير .. من اعتداءٍ على حملة العلم وأهله ؟!!

ولهذا فإن من أعظم الآداب التي يجب على الطالب – خاصة في مقاعد الدراسة – أن يتحلى بها .. الأخلاق والتربية الحسنة ..

تقول أمّ سفيان الثوريّ الذي غدا في عصره علَمًا وبين أقرانه نجمًا ساطِعًا: “يا بنيّ، خذ هذه عشرة دراهم، وتعلّم عشرةَ أحاديث، فإذا وجدتها تُغيِّر في جلستِك ومِشيتك وكلامك مع الناس فأقبِل عليه، وأنا أعينُك بمِغزلي هذا، وإلاّ فاتركه، فإني أخشَى أن يكونَ وبالاً عليك يومَ القيامة ؟!!” ..

وهذا الإيام الشافعي رحمه الله يخبر عن حاله مع شيخه الإمام مالك رحمه الله حين كان يقرأ الموطأ عليه قائلاً: “كنت أصفح ـ يعني أقلِّب ـ الورقةَ بين يدي مالك رحمه الله صفحاً دقيقاً هيبةً له لئلا يسمع وقعَها” ..

وهذا الربيع بن سليمان رحمه الله تلميذ الإمام الشافعي وأحد رواة مذهبه يقول: “والله ما اجترأتُ أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبة له” ..

وهذا الإمام الحافظ شعبة بن الحجاج يقول رحمه الله: “كنت إذا سمعت من الرجل الحديث كنت له عبدا ما دام حياً” ..

وهذا الإمام أحمد رحمه الله يقول لابن شيخه الإمام الشافعي رحمه الله يقول: “أبوك من الخمسة الذين أدعو لهم كل سحر”، قال: لم ذاك؟ قال أحمد: “إن الشافعي كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، فانظر هل لهذيْن من خلَف”، وكان بعض السلف رحمه الله إذا ذهب إلى معلّمه تصدَّق بشيء ثم قال: “اللهم استُر عيبَ معلِّمي عني، ولا تُذهب بركةَ علمه مني”.

هذا هو الأدب الذي نريده من الطالب مع شيخه ومع مدرسه بل مع كل من له فضل – بعد الله عليه – وهنا وصية جامعة تروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والتي جاء فيها قوله: (إن من حق المعلم عليك أن تسلِّم على القوم عامة وتخصَّه بالتحية .. وأن تجلس أمامه.. ولا تشيرنَّ عنده بيدك.. ولا تقصدنَّ بعينك غيره .. ولا تقولنَّ : قال فلان خلافَ قولك .. ولا تغتابنّ عنده أحداً .. ولا تُسارَّ في مجلسه .. ولا تأخذنَّ بثوبه .. ولا تلحَّ عليه إذا كسل .. ولا تشبعنّ من طول صحبته .. فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء) ..

وإنها لآداب جملية .. وخصال جليلة يبلغ المتأدبُ بها وبأمثالها أسمى المراتب .. وأعلى المنازل .. وأشرف المقامات .. ويصل بها إلى ما يرجو من فلاح وصلاح وحسن مآب ..

وهنا بيت القصيد ..

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين ،،،

_______________________

الشيخ عبد الله بن راضي المعيدي.

 

 

تصميم وتطوير شركة  فن المسلم